إذا حملت المصحف بيمينك, واستقبلته بوجهك, ومضيت تتأنق في روضاته اليانعات, سورة سورة, وآية آية, فاعلم أن من بين الذين يدينونك بالشكر والعرفان على هذا الصنع العظيم, رجل كبير اسمه: زيد بن ثابت...!!
وان وقائع جمع القرآن في مصحف, لا تذكر إلا ويذكر معها هذا الصحابي الجليل..
وحين تنثر زهور التكريم على ذكرى المباركين الذين يرجع إليهم فضل جمع القرآن وترتيبه وحفظه, فان حظ زيد بن ثابت من تلك الزهور, لحظ عظيم..
هو أنصاري من المدينة..
وكان سنّه يوم قدمها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا, إحدى عشرة سنة, وأسلم الصبي الصغير مع المسلمين من أهله, وبورك بدعوة من الرسول له..
وصحبه آباؤه معهم إلى غزوة بدر, لكن رسول الله ردّه لصغر سنه وحجمه, وفي غزوة أحد ذهب مع جماعة من أترابه إلى الرسول يحملون إليه ضراعتهم كي يقبلهم في أي مكان من صفوف المجاهدين..
وكان أهلوهم أكثر ضراعة وإلحاحا ورجاء..
ألقى الرسول على الفرسان الصغار نظرة شاكرة, وبدا كأنه سيعتذر عن تجنيدهم في هذه الغزوة أيضا..
لكن أحدهم وهو رافع بن خديج, تقدم بين يدي رسول الله, يحمل حربة, ويحركها بيمينه حركات بارعة,وقال للرسول عليه الصلاة والسلام:
" إني كما ترى رام, أجيد الرمي فأذن لي"..
وحيا الرسول هذه البطولة الناشئة, النضرة, بابتسامة راضية, ثم أذن له..
وانتفضت عروق أترابه..
وتقد ثانيهم وهو سمرة بن جندب, وراح يلوّح في أدب بذراعيه المفتولين, وقال بعض أهله للرسول:
" إن سمرة يصرع رافعا"..
وحيّاه الرسول بابتسامته الحانية, وأذن له..
كانت سن كل من رافع وسمرة قد بلغت الخامسة عشرة, إلى جانب نموهما الجسماني القوي..
وبقي من الأتراب ستة أشبال, منهم زيد بن ثابت, وعبدالله بن عمر..
ولقد راحوا يبذلون جهدهم وضراعتهم بالرجاء تارة, وبالدمع تارة, وباستعراض عضلاتهم تارة..
لكن أعمارهم كانت باكرة, وأجسامهم غضة, فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة..
بدأ زيد مع إخوانه دوره كمقاتل في سبي الله بدءا من غزوة الخندق, سنة خمس من الهجرة.
كانت شخصيته المسلمة المؤمنة تنمو نموّا سريعا وباهرا, فهو لم يبرع كمجاهد فحسب, بل كمثقف متنوع المزايا أيضا, فهو يتابع القرآن حفظا, ويكتب الوحي لرسوله, ويتفوق في العلم والحكمة, وحين يبدأ رسول الله في إبلاغ دعوته للعالم الخارجي كله, وإرسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها, يأمر زيدا أن يتعلم بعض لغاتهم فيتعلمها في وقت وجيز..
وهكذا تألقت شخصية زيد بن ثابت وتبوأ في المجتمع مكانا عليّا, وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم..
يقول الشعبي:
" ذهب زيد بن ثابت ليركب, فأمسك ابن عباس بالرّكاب.
فقال له زيد: تنحّ يا ابن عم رسول الله.. فأجابه ابن عباس: لا, هكذا نصنع بعلمائنا"..
ويقول قبيصة:
" كان زيدا رأسا بالمدينة في القضاء, والفتوى والقراءة, والفرائض"..
ويقول ثابت بن عبيد:
" ما رأيت رجلا أفكه في بيته, ولا أوقر في مجلسه من زيد".
ويقول ابن عباس:
" لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم"..
إن هذه النعوت التي يرددها عنه أصحابه لتزيدنا معرفة بالرجل الذي تدّخر له المقادير شرف مهمة من أنبل المهام في تاريخ الإسلام كله..
مهمة جمع القرآن..
منذ بدأ الوحي يأخذ طريقه إلى رسول الله ليكون من المنذرين, مستهلا موكب القرآن والدعوة بهذه الآيات الرائعة..
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {5}العلق)..منذ تلك البداية, والوحي يصاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام, ويخف إليه كلما ولّى وجهه شطر الله راجيا نوره وهداه..
وخلال سنوات الرسالة كلها, حيث يفرغ النبي من غزوة ليبدأ بأخرى, وحيث يحبط مكيدة وحربا, ليواجه خصومة بأخرى, وأخرى. وحيث يبني عالما جديدا بكل ما تحمله من الجدّة من معنى..
كان الوحي يتنزل, والرسول يتلو, ويبلّغ, وكان هناك ثلة مباركة تحرّك حرصها على القرآن من أول يوم, فراح بعضهم يحفظ منه ما استطاع, وراح البعض الآخر ممن يجيدون الكتابة, يحتفظون بالآيات مسطورة.
وخلال إحدى وعشرين سنة تقريبا, نزل القرآن خلالها آية آية, أو آيات, تلو آيات, ملبيا مناسبات النزول وأسبابها, كان أولئك الحفظة, والمسجلون, يوالون عملهم في توفيق من الله كبير..
ولم يجئ القرآن مرة واحدة وجملة واحدة, لأنه ليس كتابا مؤلفا, ولا موضوعا.
إنما هو دليل أمة جديدة تبني على الطبيعة, لبنة لبنة, ويوما يوما, تنهض عقيدتها, ويتشكل قلبها, وفكرها, وإرادتها وفق مشيئة إلهية, لا تفرض نفسها من عل, وإنما تقود التجربة البشرية لهذه الأمة في طريق الاقتناع الكامل بهذه المشيئة..
ومن ثمّ, كان لا بد للقرآن أن يجيء منجّما, ومجزأ, ليتابع التجربة في سيرها النامي, ومواقفها المتجددة. وأزماتها المتصديّة.
توافر الحفاظ, والكتبة, كما ذكرنا من قبل, على حفظ القرآن وتسجيله,وكان على رأسهم علي بن أبي طالب, وأبيّ بن كعب, وعبدالله ابن مسعود, وعبدالله بن عباس, وصاحب الشخصية الجليلة التي نتحدث عنها الآن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين..