الخطبة الاولى
إن الحمد لله ، نحمده تعالى و نستعينه و نستغفره و نستهديه ،
و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ،
و أشهد ان لا إلهَ الا الله وحده لا شريك له ،
و أشهد ان سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله ،
أمام المتقين و قائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم ،
صلى الله و سلم و بارك عليه وعلى آله و أصحابه و التابعين و من تبعهم باحسان إلى يوم الدين.
أما بعــــــــد :
فاتقوا الله معاشر المسلمين ، وراقبوه في السر و العلن ،
و أعبدوه كأنكم ترونه ، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم ،
وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *
وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
[ الشعراء:217-220 ] .
باد الله ، إن في كرِّ الأيام و الليالي لعبرةً ، و الأيام تمر مرَّ السحاب ،عشيةٌ تمضي ، و تأتي بكرة ، و حساب يأتي على مثقال الذرة ،
و الناس برُمَّتهم منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين ،
و ليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير ،
ألا و إن سرعة حركة الليل و النهار لتؤكِّد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة
كما صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق صلوات الله و سلامه عليه .
و هذا كله – عباد الله – يُعدُّ فرصةً عظمى لإيقاظ ذوي الفطن و أصحاب الحجى ، لفعل الخير ،
و التوبة النصوح ، و إسداء المعروف ، و ترك ما يشين ،
وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ
أَوْ أَرَادَ شُكُوراً
[ الفرقان:62 .
لقد ظل المسلمون جميعاً شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم ،
و يورون الله من أنفسهم متقلِّبين في ذلك بين دعاء و صلاة و ذكر و صدقة و تلاوةٍ للقرآن ،
ولكن سرعان ما انقضت الأيام ،
و كأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر ، و إلى الله المصير
أيها المسلمون ،
إن من يقارن أحوال الناس في رمضان و بعد رمضان ليأخذ العجبُ من لبِّه كلَّ مأخذ ،
حينما يرى مظاهر الكسل و الفتور و التراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان ،
و كأنَّ لسان حالهم يحكي أن العبادة و التوبة و سائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان ،
و ما علموا أن الله سبحانه هو رب الشهور كلها ، و ما شهر رمضان بالنسبة لغيره
من الشهور إلا محط تزود و ترويض على الطاعة و المثابرة عليها ،
إلى حين بلوغ رمضان الآخر ، و لا غرْو في ذلك عباد الله ،
فالله جل وعلا أتبع فرض الصيام على عباده بقوله :
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة:21 ]
و من هنا – عباد الله – كان لزاماً علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات و آثارها
لا إلى صورها و رسومها ، إذ كم من مجهد نفسه كان حظه من صيامه الجوعَ و العطش ،
و كم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه فيه التعب و السهر ،
و آكد ما يدل على ذلك حينما يُسائل الناس أنفسَهم : كم مرة قرؤوا القرآن في رمضان ؟
و كم سمعوا فيه من حِكَم و مواعظ وعبر ؟[
ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ؟ !
ألم يقرؤوا صيحة عاد ، و صاعقة ثمود ، و خسف قوم لوط ؟
ألم يقرؤوا الحاقة و الزلزلة و القارعة و إذا الشمس كورت ؟ !
فسبحان الله ، ما هذا الذي ران على القلوب ؟ !
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً
النساء:82 ] .
أفقُدَّت قلوبنا بعد ذلك من حَجَر ؟ ! أمْ خُلقت من صخر صلب ؟ !
أين القلب الذي يخشع و العين التي تدمع ؟ فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعاً .
أيها المؤمنون : إن لرمضان ميزة و خصوصية في العبادة ليست في غيره من الشهور ،
بيْد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب ، ولذلك كان النبي صلِّ الله عليه و سلم
جواداً في كل حياته غير أنه يزداد جوده إذا حلَّ رمضان ،
ناهيكم عن أن الرجوع و النكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه
النبي صلِّ الله عليه و سلم بقوله فيما صح عنه :
وأعوذ بك من الحور بعد الكور
و الله جل و علا يقول :
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـٰثًا
[ النحل:92.
و يؤكد ذلك ما قاله صلِّ الله عليه و سلم في دعائه المشهور
واجعل الحياة زيادة لي في كل خير
إذ لم يُقصر الخير على شهر رمضان فحسب ،
بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه جل و علا بقوله :
وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ
[ الحجر:99 ،
فلا منتهى للعبادة و التقرب إلى الله إلا بالموت .
إن مما لا شك فيه أن هناك ضعفاً في البشر لا يملكون أن يتخلصوا منه ،
و ليس مطلوبٌ منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم ،
غير أن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين ،
و تجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافةً و أسرة
و إعلاماً من الثوابت التي لا تتغير، و لا تخدَع بها النفس في موسمٍ ما دون غيره ،
كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه – بإذن الله – من التساقط و التهالك،
و تحرسهم من الفترة بعد الشرَّة ، فرسول الله صلِّ الله عليه و سلم يقول:
يا أيها الناس ، خذوا من الأعمال ما تطيقونفإن الله لا يمل حتى تملوا ، و إن أحب الأعمال إلى الله ما دام و إن قل
[رواه البخاري و مسلم]
و لأجل هذا أيها المسلمون ،
فإن هناك عبادات هي من الثوابت التي لا تتغير بعد رمضان كالصلاة و الزكاة و الصدقة ،
و كذا الدعاء لنفسك و لمن أوصاك به و لإخوانك في الملة و الدين
من المستضعفين والمجاهدين،
ناهيكم عن التوبة المطلوبة في كل حين و آن ، و التي أمرنا الله بها في قوله
وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
[ النور:31 ] ،
و كان يتأولها النبي صلِّ الله عليه و سلم بقوله :
إني لأستغفر الله و أتوب إليه في اليوم مائة مرة