من بين المسلمين السابقين، والمهاجرين
الأولين الى الحبشة، فالمدينة..
ومن
بين الرماة الأفذاذ الذين أبلوا في سبيل الله بلاء حسنا، هذا الرجل
الفارع
الطول، المشرق الوجه، المخبت القلب عتبة بن غزوان...
**
كان
سابع سبعة سبقوا الى الاسلام، وبيطوا أيمانهم الى يمين الرسول صلى الله
عليه وسلم، مبايعين ومتحدّين قريش بكل ما معها من بأس وقدرة على
الانتقام..
وفي
الأيام الأولى للدعوة.. أيام العسرة والهول، صمد عتبة بن غزوان، مع
اخوانه
ذلك الصمود الجليل الذي صار فيما بعد زادا للضمير الانساني يتغذى به
وينمو على مر الأزمان..
ولما أمر رسول الله
عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة الى الحبشة، خرج
عتبة مع
المهاجرين..
بيد أن شوقه الى النبي صلى الله
عليه وسلم لم يدعه يستقر هناك، فسرعان ما
طوى البرّ والبحر عائدا الى
مكة، حيث لبث فيها بجوار الرسول حتى جاء ميقات
الهجرة الى المدينة،
فهاجر عتبة مع المسلمين..
ومنذ بدأت قريش
تحرشاتها وحروبها، وعتبة حامل رماحه ونباله، يرمي بها في
أستاذية
خارقة، ويسهم مع اخوانه المؤمنين في هدم العالم القديم بكل أوثانه
وبهتانه..
ولم
يضع سلاحه يوم رحل عنهم الرسول الكريم الى الرفيق الأعلى، بل ظل يضرب
في
الأرض، وكان له مع جيوش الفرس جهاد عظيم..
**
أرسله
أمير المؤمنين عمر الى الأبلّة ليفتحها، وليطهر أرضها من الفرس الذين
كانوا يتخذونها نقطة وثوب خطرة على قوات الاسلام الزاحفة عبر بلاد
الامبراطورية
الفارسية، تستخلص منها بلاد الله وعباده..
وقال
له عمر وهو يودّعه وجيشه:
" انطلق أنت ومن
معك، حتى تأتوا أقصى بلاد العرب، وأدنى بلاد العجم..
وسر
على بركة الله ويمنه..
وادع الى الله من
أجابك.
ومن أبى، فالجزية..
والا
فالسيف في غير هوادة..
كابد العدو، واتق الله
ربك"..
**
ومضى
عتبة على رأس جيشه الذي لم يكن كبيرا، حتى قدم الأبلّة..
وكان
الفرس يحشدون بها جيشا من أقوى جيوشهم..
ونظم
عتبة قواته، ووقف في مقدمتها، حاملا رمحه بيده التي لم يعرف الناس لها
زلة منذ عرفت الرمي..!!
وصاح في جنده:
"
الله أكبر، صدق وعده"..
وكأنه كان يقرأ غيبا
قريبا، فما هي الا جولات ميمونة استسلمت بعدها الأبلّة
وطهرت أرضها من
جنود الفرس، وتحرر أهلها من طغيان طالما أصلاهم سعيرا..
وصدق الله
العظيم وعده..!!
**
احتطّ
عتبة مكان الأبلّة مدينة البصرة، وعمّرها وبنى مسجدها العظيم..
وأراد
أن يغادر البلاد عائدا الى المدينة، هاربا من الامارة، لكن أمير
المؤمنين
أمره بالبقاء..
ولبث عتبة مكانه يصلي بالناس،
ويفقههم في دينهم، ويحكم بينهم بالعدل، ويضرب
لهم أروع المثل في الزهد
والورع والبساطة...
ووقف يحارب الترف والسرف
بكل قواه حتى ضجره الذين كانوا تستهويهم المناعم
والشهوات..
هنالك
وقف عتبة فيهم خطيبا فقال:
" والله، لقد
رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ومالنا
طعام الا ورق
الشجر حتى قرحت أشداقنا..
ولقد رزقت يوما
بردة، فشققتها نصفين، أعطيت نصفها سعد بن مالك، ولبست نصفها
الآخر"..
**
كان
عتبة يخاف الدنيا على دينه أشد الخوف، وكان يخافها على المسلمين، فراح
يحملهم
على القناعة والشظف.
وحاول
الكثيرون أن يحوّلوه عن نهجه، ويثيروا في نفسه الشعور بالامارة، وبما
للامارة من حق، لا سيما في تلك البلاد التي لم تتعود من قبل أمراء من هذا
اطراز
المتقشف الزاهد، والتي تعود أهلها احترام المظاهر المتعالية
المزهوّة..
فكان عتبة يجيبهم قائلا:
" اني أعوذ بالله أن
أكون في دنياكم عظيما، وعند الله صغيرا"..!
ولما
رأى الضيق على وجوه الناس بسبب صرامته في حملهم على الجادّة والقناعة
قال
لهم:
" غدا ترون الأمراء من بعدي"..
وجاء
موسم الحج، فاستخلف على البصرة أحد اخوانه وخرج حاجا. ولما قضى حجه،
سافر
الى المدينة، وهناك سأل أمير المؤمنين أن يعفيه الامارة..
لكن
عمر لم يكن يفرّط في هذا الطراز الجليل من الزاهدين الهاربين مما يسيل
له
لعاب البشر جميعا.
وكان يقول لهم:
"
تضعون أماناتكم فوق عنقي..
ثم تتركوني
وحدي..؟
لا والله لا أعفكيم أبدا"..!!
وهكذا
قال لـ عتبة لغزوان..
ولما لم يكن في وسع
عتبة الا الطاعة، فقد استقبل راحلته ليركبها راجعا الى
البصرة.
لكنه
قبل أن يعلو ظهرها، استقبل القبلة، ورفع كفّيه الضارعتين الى السماء
ودعا
ربه عز وجل ألا يردّه الى البصرة، ولا الى الامارة أبدا..
واستجيب
دعاؤه..
فبينما هو في طريقه الى ولايته أدركه
الموت..
وفاضت روحه الى بارئها، مغتبطة بما
بذلت وأعطت..
وبما زهدت وعفت..
وبما
أتم الله عليها من نعمة..
وبما هيأ لها من
ثواب