قال لي أبو عبدالله -
وهو يحدق في وجهي، بعد أن أشرتُ عليه بالرفق بأبنائه،
وحسن التلطُّف معهم -:
هل تظن أني أريد بأولادي سوءًا؟ قلتُ له: "حاشاك"،
قال: إنما أريد مصلحتهم، هم لا يعرفون مصلحتهم، ومِن واجبنا أن
نَأطرهم عليها أَطرًا.
قلت له: يا
أبا عبدالله، دعني أسوق لك مثالاً من حديث الصادق المصدوق -
صلى الله عليه وسلم –
عندما أتاه أعرابي
يستعينه في شيء، فأعطاه، ثم قال له - صلى الله عليه وسلم -:
((أحسنتُ إليك؟))، قال الأعرابي: "لا، ولا أجملت"، فغضب بعضُ
المسلمين،
وهموا أن يقوموا إليه،
فأشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم: ((أنْ كُفُّوا))،
فلما قام رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وبلغ إلى منزله، دعا الأعرابيَّ إلى البيت
فقال: ((إنك إنما جئتَنا
تسألنا، فأعطيناك، فقلتَ ما قلت))، فزاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم –
شيئًا، وقال: ((أحسنتُ
إليك؟))، فقال الأعرابي: "نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا".
قال النبي - صلى الله
عليه وسلم -: ((إنك جئتنا
فسألتَنا فأعطيناك، فقلتَ ما قلت،
وفي أنفس أصحابي عليك
من ذلك شيءٌ، فإذا جئتَ فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي؛
حتى يذهب عن
صدورهم))، فقال: "نعم"، فلمَّا
جاء الأعرابي، قال رسول الله –
صلى الله عليه وسلم -: ((إن صاحبكم كان جاءنا
فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال،
وإنا قد دعوناه
فأعطيناه، فزعم أنه قد رضي، كذلك يا أعرابي؟))،
فقال الأعرابي:
"نعم، فجزاك الله من
أهل وعشيرة خيرًا".
فقال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: ((إن مَثَلي ومثل هذا
الأعرابي، كمَثَل رجلٍ
كانت له ناقة فشردتْ
عليه، فاتَّبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورًا، فقال لهم صاحب الناقة:
خلُّوا بيني وبين
ناقتي؛ فأنا أرفق بها، وأنا أعلم بها، فتوجَّه إليها، وأخذ لها من قَتَام الأرض
ودعاها، حتى جاءت
واستجابت، وشد عليها رحلها،
وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال، لدَخَلَ النار))؛
والحديث من رواية
البَزَّار، وابن كثير يضعفه.
أرأيت يا أبا
عبدالله؟
مثل البعير
هو مثل أولادنا، يشتدُّون هربًا منا، فلو أطرناهم - كما تقول - لزاد فرارُهم
وهربهم، ولا بد أن نأخذ
لهم شيئًا من قَتَام الأرض، إذا أساء ولدُك، فلا تُعِنِ الشيطانَ
عليه، إذا لم يعرف مصلحة
نفسه، فلا تزجره، أبدأ بقتام الأرض، اجعله يحبك، ويثق فيك،
ويعتقد أنك أقرب إليه من
صديقه الذي في الطريق، أعطِه من قتام الأرض؛ حتى تهدأ نفسه،
طيِّب خاطره بالكلمة الطيبة، والعبارة اللينة، والهدية التي يحبها،
فإذا هدأتْ نفسه،
واقترب منك، وشعرتَ أنه قد أناخ ركابه عندك، عندئذٍ اعلم أنها
الساعة المناسبة
لتشرحَ له وجهه نظرك،
وتبيِّن له ما تُريده منه، وتستمع إليه، وتبادله الرأي
بالرأي، والحُجَّة بالحجة، وهو - ولا شك - سيطيعك، ولن يخالف لك
أمرًا.
قال لي أبو عبدالله -
وقد بدا أن القصة أثَّرت فيه بعض التأثير -: والله إنهم لا يعلمون
أننا لا نريد لهم إلا
الخير، ولا يشعرون أننا نبحث عن مصلحتهم، قلت له: لقد قالها لي
أبي، قال: والله لن تعلم مقدار معاناتي في البحث عن مصالحك، حتى
يكون لك أبناء،
ثم قلتُ له: يا أبا عبدالله، هذه هي الحقيقة، لكن واجبك حتى يدرك
ابنك هذه الحقيقة،
أن تنزلَ من كونك أبًا،
وتخاطبه بلغة عصْره، وبما يعرفه، وتتفَهَّم متطلباته، وإلا اعتقد
ابنُك يقينًا أنك منَ
الجيل القديم، الذي لا يفهمُ شيئًا في واقع الناس، وأنك لا تفقه شيئًا من متطلبات
العصر.
ولذا فإن
عليه أن يهز رأسه لك، ثم يفعل ما يحلو له، ثم التفتُّ إليه، وقلتُ: عليك
أن تحمد الله - عز وجل -
أنْ جعل أبناءك صالحين، كم من الناس يتمنَّى أن يكون له
أولاد مثل أولادك، فاحمد الله على نعمته وفضله، واشكره على عطائه
ومَنِّه،
وصلاح الأب يورث صلاح
الذرية من بعده، وعناية الله بهم، وحفظ الله لهم.
قام عنِّي أبو عبدالله
وانصرف، ولا أدري إن كان اقتنع بكلامي أو أن حسبي
أن أقول كما قال الأول:
الحق يحتاج إلى رجلين: رجل ينطق به، ورجل يفهمه.