ومن يؤمنْ بالله يهدِ
قلبَه
أسوقُ هنا قصةً لتظهر سعادة من
رضي بالقضاءِ ، وحيرة وتكدُّر وشكَّ منْ سخِط مِن القضاءِ :
فهذا كاتبٌ أمريكيٌ لامعٌ ، اسمُه
«
بودلي » مؤلّفُ كتابِ « رياح على الصحراءِ » ، و « الرسول صلى الله عليه
وسلم
» وأربعة
عشرَ كتاباً أخرى ، وقد استوطن عام 1918 م إفريقية الشمالية الغربية ، حيث عاش مع
قومٍ من الرُّحَّل البدوِ المسلمين ، يصلُّون ويصومون ويذكرون الله .
يقولُ عن
بعضِ مشاهدِه وهو معهم : هبَّتْ ذات يومٍ عاصفةٌ عاتية
، حملت رمال الصحراءِ وعبرتْ بها البحر الأبيض المتوسط ، ورمتْ بها وادي الرون في
فرنسا ، وكانت العاصفة حارةً شديدةً
الحرارةِ ، حتى أحسستُ كأنَّ شعْر رأسي
يتزعزعُ من منابتِهِ لفرطِ وطأةِ الحرِّ ، فأحسستُ من فرطِ الغيظِ كأنني مدفوعٌ إلى
الجنون ، ولكنَّ العرب لم يشكوا إطلاقاً ، فقد هزُّوا أكتافهم وقالوا : قضاءٌ
مكتوبٌ . واندفعوا إلى العمل بنشاطٍ ، وقال رئيسُ القبيلةِ
الشيخُ : لم نفقدِ الشيء الكثير ، فقد كنا
خليقين بأن نفقد كلَّ شيءٍ ، ولكن الحمدُ للهِ وشكراً ، فإن لدنيا نحو أربعين في
المائة مِن ماشيِتنا ، وفي استطاعِتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد .
وثمَّة حادثةٌ أخرى .. فقدْ كنا نقطعُ الصحراء
بالسيارةِ يوماً فانفجر أحدُ الإطارات ، وكان الشائقُ قد نسي استحضار إطار
احتياطيٍّ ، وتولاني الغضبُ ، وانتابني القلقُ والهمُّ ، وسألتُ صحبي من الأعرابِ :
ماذا عسى أن نفعل ؟ فذكَّروني بأن الاندفاع إلى الغضبِ
لن يُجدي فتيلاً ، بل هو خليقٌ أن يدفع الإنسان
إلى الطيشِ والحُمْقِ ، ومنْ ثم درجتْ بنا السيارة وهي تجري على ثلاثة إطارات ليس
إلا ، لكنها ما لبثت أن كفَّتْ عن السير ، وعلمت أن البنزين قد نفَدَ ، وهناك أيضاً
لم تثرْ ثائرة أحدٍ منْ رفاقي الأعرابِ ، ولا فارقهُم هدوؤهم ، بل مضوْا يذرعون
الطريق سيراً على الأقدامِ ، وهم يترنَّمون بالغناءِ !
قد أقنعتني الأعوامُ السبعةُ التي قضيتُها في
الصحراءِ بين الأعرابِ الرحَّلِ ، أنَّ الملتاثين ، ومرضى
النفوسِ ، والسكيرين ، الذين تحفلُ بهم أمريكا وأوربة ، ما هم إلا ضحايا المدينةِ
التي تتخذُ السرعة أساساً لها .
إنني لم أعانِ شيئاً من القلق
قطُّ ، وأنا أعيشُ في الصحراءِ ، بل هنالك في جنةِ اللهِ ، وجدتُ السكينة والقناعة
والرضا ، وكثيرون من الناسِ يهزؤون بالجبريةِ التي يؤمن بها الأعرابُ ، ويسخرون من
امتثالِهِم للقضاءِ والقدرِ .
ولكن منْ يدري ؟ فلعلَّ الأعراب أصابُوا كبِد
الحقيقة ، فإني إذ أعودُ بذاكرتي إلى
الوراءِ .. وأستعرضُ حياتي ، أرى جلياً أنها كانت تتشكَّلُ في فتراتٍ متباعدةٍ
تبعاً لحوادث تطرأ عليها ، ولم تكنْ قطُّ في الحُسبانِ أو مما أستطيعُ له دفعاً ،
والعربُ يطلقون على هذا اللون من الحوادث اسم : « قدَر » أو « قِسْمة» أو « قضاءُ اللهِ » ، وسمِّه أنت ما شئت .
وخلاصةُ القولِ : إنني بعد انقضاءِ سبعةَ عشر عاماً
على مغادرتي الصحراء ، ما زلتُ أتخذ موقف العربِ حيال قضاءِ اللهِ ، فأقابلُ
الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة ، ولقد أفلحت هذه الطباعُ
التي اكتسبتُها من العرب في تهدئِة أعصابي أكثر مما تفلحُ آلاف المسكِّناتِ
والعقاقيرِ ! ...اهـ .
أقولُ : إن أعراب الصحراءِ تلقَّنُوا هذا
الحقَّ من مشكاةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإن خلاصة رسالةِ المعصومِ هي إنقاذ
الناسِ من التِّيهِ ، وإخراجِهم من الظلماتِ إلى
النورِ ، ونفْضِ الترابِ عن رؤوسِهم ، ووضعِ الآصارِ والأغلالِ عنهم .
إنّ الوثيقة التي بُعِث بها رسولُ الهُدى صلى الله عليه وسلم فيها أسرارُ الهدوءِ
والأمنِ ، وبها معالمُ النجاةِ من الإخفاق ، فهي اعترافٌ بالقضاء وعمل بالدليل ،
ووصول إلى غاية ، وسعي إلى نجاة ، وكدح بنتيجة . إن الرسالة الربانية جاءت لتحدد
لكموقعك في الكون المأنوس ، ليسكن
خاطرك ، ويطمئن قلبك ، ويزول همك ، ويزكو عملك ، ويجمُل خلقك ، لتكون العبد المثالي
الذي عرف سرَّ وجوده ، وأدرك القصد من نشأته .
كتاب لا تحزن
- عائض القرني