الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين وبعد :
إن الله تعالى لم يشرع لنا عبادة إلا ولها غاية ومن ورائها حكمة ولابد أن
يقطف المسلم بعد أدائها ثمرة ، وهذه الحكم قد ندركها أحيانا وقد لا ندركها
، ولو تتبعنا أهم العبادات لوجدنا هذه الحقيقة .
فعماد الدين (( الصلاة )) التي أمرنا الله عزوجل أن نؤديها خمس مرات في
اليوم والليلة فيها من الحكم والدروس الشيء الكثير ، فالمسلم في صلاته يقف
خاضعا في جسده وقلبه وجوارحه بين يدي الله تبارك وتعالى ففي هذا الوقوف
تعويد لقلب المسلم وأركانه وجوارحه أن تكون دائما خاضعة منقادة لله تبارك
وتعالى ، ولذلك قال الله عز وجل : ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ قال ابن عباس : في الصلاة منتهى
ومزدجر عن معاصي الله ، وقال : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم
يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا .
وكذلك فريضة الحج فإن الله تعالى لما ذكر آيات الحج في سورة البقرة قال
سبحانه وتعالى في آخر الآيات : ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ وكأن المسلم حين يترك أهله ووطنه للذهاب إلى الحج
فإنه يتذكر الرحيل من هذه الدنيا إلى عالم الآخرة ، وأيضا فإن شعائر الحج
واجتماع الناس فيها يذكر المسلم بحشر الناس يوم القيامة واجتماعهم عند ربهم
للجزاء .
والزكاة أيضا فإن الله تعالى قال فيها ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ فالزكاة فيها تطهير للنفس من الشح
الذي جبلت عليه ومن دنس البخل والطمع والتكبر على الفقراء والمحتاجين ،
والإرتقاء بهذه النفس بالتطلع إلى ما عند الله تعالى .
أما الصيام فإنه مدرسة عظيمة فيها من الدروس والحكم الشيء الكثير ، فالله
تبارك وتعالى ماشرع الصيام فقط ليكون فيه إمتناع عن الطعام والشراب والشهوة
– مع أن الصيام لايصح إلا به – دون التطلع إلى حكم الصيام وغاياته ، ولذلك
ذم نبينا صلى الله عليه وسلم من ينظر إلى الصيام هذه النظرة القاصرة ففي
البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه
)) . وروي عن أبي هريرة مرفوعا : (( الصائم في عبادة مالم يغتب مسلما أو
يؤذه )) رواه ابن أبي شيبة . وعن أنس (( ماصام من ظل يأكل لحوم الناس ))
رواه ابن أبي شيبة مرفوعا .
إذا لم يكن في السمع مني تصـاون * * * وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذاً من صومي الجوع والظمأ * * * فـإن قلت إني صمت يوماً فما صمت
إذا فالمسلم بعد صيامه لابد أن ينظر إلى الثمار التي جناها بعد إنتهاء هذا
الشهر المبارك فانظر إلى حالك وإليك هذه الثمرات :
أولا : تقوى الله عز وجل .
فأهم ثمرات الصيام تقوى الله عز وجل وهي الغاية التي شرع الله تعالى الصيام
من أجلها فالتقوى : هي أن يفعل الإنسان ماأمر الله وأن ينتهي عما نهى ، وإن
كانت نفسه تنازعه وتلح عليه بالتفلت من هذه الأوامر وارتكاب المعاصي
والمحرمات ، وبالصيام فإن المسلم يمتنع عن الطعام والشراب وغيرها من
المفطرات إمتثالا لأمر الله تعالى وإن كانت النفس تطلبها وتشتهيها وتلح
عليه بفعلها فإنه يتجاهلها مقدما امر الله تعالى عليها .
ثانيا : مراقبة الله تعالى
ومن ثمرات الصيام مراقبة الله تعالى في أي مكان وفي كل حين فالمراقبة : أن
تعلم أن الله تعالى ناظر إليك مطلع على سريرتك ، وبالصيام فالمسلم يمتنع عن
تناول وفعل مايفسد صيامه في أي مكان وفي كل حين لأنه يعلم أن الله تعالى
يراه ومطلع عليه ولا يخفى عليه شيء .
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * * * خلوت ولكن قل علي رقيب.
ولا تحسبن الله يغفـل ســاعة * * * ولا أن ما تخفي عليه يغيب.
ثالثا : الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية .
ومن ثمرات الصيام الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية رجاء الثواب الذي
أعده الله لعباده في الآخرة وانها أيام معدودة في الدنيا ثم نغادرها لنفضي
الى ماقدمنا ، وأن الصبر عاقبته حميدة ولذلك يقول الله تعالى لعباده
المؤمنين يوم القيامة : ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ
فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ فبعد الثواب ينسى المسلم التعب وينال ثواب
الله تعالى على ماقدم .
قال الحسنُ رحمه الله : إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه
بطاعته إلى مرضاته ، فسبق قوم ففازوا ، وتخلَّف آخرون فخابوا ، فالعجب من
اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المُحسنون ، ويخسر فيه المبطلون ثم
يَبكي رحمه الله .
وبالصيام فإن المسلم يصبر على الجوع والعطش فترة محدودة يعقبها فرحة
الإفطار الذي ينسى بعدها التعب وشدة الجوع والعطش .
رابعا : الإرادة والعزيمة .
ومن ثمرات الصيام الإرادة والعزيمة وهي بذل الوسع والطاقة دون توقف أو فتور
حتى يحقق المرء مايريد متجاهلا دعوات نفسه للدعة والراحة ، وبالصيام
فالمسلم يبدأ صيامه بإرادة قوية وعزيمة جامحة دون التطلع إلى دعوات نفسه
للدعة والراحة ولا الإستجابة لما تطلبه وفعل ماتشتهيه فيسوق نفسه ويطوعها
حتى يحقق مراده من الصيام .
خامسا : معرفة قيمة الحياة .
ومن ثمرات الصيام معرفة قيمة الحياة والحرص على أيامها ولياليها وأنها
ميدان للتنافس وان هذا الميدان سيغلق بعد حين وكذلك بالصيام فإنه أيام
معدودة ثم تنقضي فمن اغتنمها بفعل الطاعات وترك المنكرات نال رضا الله
تبارك وتعالى ، ومن ضيعها بالتكاسل وفعل المعاصي
والذنوب فإنه لن يجني إلا الندم ولن يحصد إلا الشقاء .
تفنى اللذاذة ممن ذاق صبوتها * * * من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها * * * لاخير في لذة من بعدها النار
سادسا : المسارعة إلى فعل الخيرات .
ومن ثمرات الصيام المسارعة إلى فعل الخيرات دون التعذر بأوقات دون أوقات
والتأجيل والتسويف حتى تروق نفسه لذلك .
إذا كان يؤذيك حرّ المصيف * *
* وكرب الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع * * * فأخذك للعلم قل لي : مـتى ؟
والصائم مع جوعه وعطشه فإنه لايتأخر عن أداء الصلوات وفعل الطاعات مع طلب
النفس للدعة والراحة .
سابعا : التطلع إلى ماعند الله في الدار الآخرة .
ومن ثمرات الصيام التطلع إلى ماعند الله في الدار الآخرة والجد والإجتهاد
في الأعمال الصالحة التي تقرب الى الجنة وإجتناب المعاصي والذنوب التي تقرب
إلى النار والصائم في شهر الصيام يجد ويجتهد ويصبر ليحافظ على صيامه ،
ويترك مايغضب الله تبارك وتعالى حتى لايكون ذلك سببا في عدم قبول صيامه ثم
ينتهي هذا الشهر بفرحة العيد للطائعين والندم والحسرة للمفرطين
غدا توفى النفوس ما كسبت * *
* و يحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم * * * و إن أساءوا فبئس ما صنعوا
حقا إن الصيام مدرسة عظيمة
نستلهم منها الدروس والعبر لنبدأ سنة جديدة في طاعة الله تبارك وتعالى .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين