حبيب بن زيد ( أسطورة فداء وحب ) في بيعة العقبة الثانية التي مر بنا ذكرها كثيرا, والتي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فيها سبعون رجلا وسيدتان من أهل المدينة, كان حبيب بن زيد وأبوه زيد بن عاصم رضي الله عنهما من السبعين المباركين..
وكانت أمه نسيبة بنت كعب أولى السيدتان اللتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
أم السيدة الثانية فكانت خالته..!!
هو إذن مؤمن عريق جرى الإيمان في أصلابه وترائبه..
ولقد عاش إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة لا يتخلف عن غزوة, ولا يقعد عن واجب..
وذات يوم شهد جنوب الجزيرة العربية كذابين عاتيين يدّعيان النبوة ويسوقان الناس إلى الضلال..
خرج أحدهما بصنعاء, وهو الأسود بن كعب العنسي..
وخرج الثاني باليمامة, وهو مسيلمة الكذاب..
وراح الكذابان يحرّضان الناس على المؤمنين الذين استجابوا لله, وللرسول في قبائلهما, ويحرّضان على مبعوثي رسول الله إلى تلك الديار..
وأكثر من هذا, راحا يشوّشان على النبوة نفسها, ويعيثان في الأرض فسادا وضلالا..
وفوجئ الرسول يوما بمبعوث بعثه مسيلمة يحمل منه كتابا يقول فيه "من مسيلمة رسول الله, إلى محمد رسول الله.. سلام عليك.. أم بعد, فاني قد أشركت في الأمر معك, وان لنا نصف الأرض, ولقريش نصفها, ولكنّ قريشا قوم يعتدون"..!!!
ودعا رسول الله أحد أصحابه الكاتبين, وأملى عليه ردّه على مسيلمة:
" بسم الله الرحمن الرحيم..
من محمد رسول الله, إلى مسيلمة الكذاب.
السلام على من اتبع الهدى..
أما بعد, فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده, والعاقبة للمتقين"..!!
وجاءت كلمات الرسول هذه كفلق الصبح. ففضحت كذاب بني حنيفة الذي ظنّ النبوّة ملكا, فراح يطالب بنصف الأرض ونصف العباد..!
وحمل مبعوث مسيلمة رد الرسول عليه السلام إلى مسيلمة الذي ازداد ضلالا وإضلالا..
ومضى الكذب ينشر إفكه وبهتانه, وازداد أذاه للمؤمنين وتحريضه عليهم, فرأى الرسول أن يبعث إليه رسالة ينهاه فيها عن حماقاته..
ووقع اختياره على حبيب بن زيد ليحمله الرسالة مسيلمة..
وسافر حبيب يغذّ الخطى, مغتبطا بالمهمة الجليلة التي ندبه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنّيا نفسه بأن يهتدي إلى الحق, قلب مسيلمة فيذهب حبيب بعظيم الأجر والمثوبة.
وبلغ المسافر غايته..
وفضّ مسيلمة الكذاب الرسالة التي أغشاه نورها, فازداد إمعانا في ضلاله وغروره..
ولما لم يكن مسيلمة أكثر من أفّاق دعيّ, فقد تحلى بكل صفات الأفّاقين الأدعياء..!!
وهكذا لم يكن معه من المروءة ولا من العروبة والرجولة ما يردّه عن سفك دم رسول يحمل رسالة مكتوبة.. الأمر الذي كانت العرب تحترمه وتقدّسه..!!
وأراد قدر هذا الدين العظيم, الإسلام, أن يضيف إلى دروس العظمة والبطولة التي يلقيها على البشرية بأسرها, درسا جديدا موضوعه هذه المرة, وأستاذه أيضا, حبيب بن زيد..!!
جمع الكذاب مسيلمة قومه, وناداهم إلى يوم من أيامه المشهودة..
وجيء بمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم, حبيب بن زيد, يحمل آثار تعذيب شديد أنزله به المجرمون, مؤملين أن يسلبوا شجاعة روحه, فيبدو أمام الجميع متخاذلا مستسلما, مسارعا إلى الإيمان بمسيلمة حين يدعى إلى هذا الإيمان أمام الناس.. وبهذا يحقق الكذاب الفاشل معجزة موهومة أمام المخدوعين به..
قال مسيلمة لـ حبيب:
" أتشهد أن محمدا رسول الله..؟
وقال حبيب:
نعم أشهد أن محمدا رسول الله.
وكست صفرة الخزي وجه مسيلمة وعاد يسأل:
وتشهد أني رسول الله..؟؟
وأجاب حبيب في سخرية قاتلة:
إني لا أسمع شيئا..!!
وتحوّلت صفرة الخزي على وجه مسيلمة إلى سواد حاقد مخبول..
لقد فشلت خطته, ولم يجده تعذيبه, وتلقى أمام الذين جمعهم ليشهدوا معجزته.. تلقى لطمة قوية أسقطت هيبته الكاذبة في الوحل..
هنالك هاج كالثور المذبوح, ونادى جلاده الذي أقبل ينخس جسد حبيب بسنّ سيفه..
ثم راح يقطع جسده قطعة قطعة, وبضعة بضعة, وعضوا عضوا..
والبطل العظيم لا يزيد على همهمة يردد بها نشيد إسلامه:
" لا إله إلا الله محمد رسول الله"..