حمزة بن عبد المطلب ( أسد الله وسيّد الشهداء ) كانت مكة تغطّ في نومها, بعد يوم مليء بالسعي, وبالكدّ, وبالعبادة وباللهو..
والقرشيون يتقلبون في مضاجعهم هاجعين.. غير واحد هناك يتجافى عن المضجع جنباه, يأوي إلى فراشه مبركا, ويستريح ساعات قليلة, ثم ينهض في شوق عظيم, لأنه مع الله على موعد, فيعمد إلى مصلاه في حجرته, ويظل يناجي ربه ويدعوه.. وكلما استيقظت زوجته على أزير صدره الضارع وابتهالاته الحارة الملحة, وأخذتها الشفقة عليه, ودعته أن يرفق بنفسه ويأخذ حظه من النوم, يجيبها ودموع عينيه تسابق كلماته:
" لقد انقضى عهد النوم يا خديجة"..!!
لم يكن أمره قد أرّق قريش بعد, وان كان قد بدأ يشغلا انتباهها, فلقد كان حديث عهد بدعوته, وكان يقول كلمته سرا وهمسا.
كان الذين آمنوا به يومئذ قليلين جدا..
وكان هناك من غير المؤمنين به من يحمل له كل الحب والإجلال, ويطوي جوانحه على شوق عظيم إلى الإيمان به والسير في قافلته المباركة, لا يمنعه سوى مواضعات العرف والبيئة, وضغوط التقاليد والوراثة, والتردد بين نداء الغروب, ونداء الشروق.
من هؤلاء كان حمزة بن عبد المطلب.. عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.
كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله.. وكان على بيّنة من حقيقة أمره, وجوهر خصاله..
فهو لا يعرف معرفة العم بابن أخيه فحسب, بل معرفة الأخ بالأخ, والصديق بالصديق.. ذلك أن رسول الله وحمزة من جيل واحد, وسن متقاربة. نشأ معا وتآخيا معا, وسارا معا على الدرب من أوله خطوة خطوة..
ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق, فأخذ حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة, وإفساح مكان لنفسه بين زعماء مكة وسادات قريش.. في حين عكف محمد على أضواء روحه التي انطلقت تنير له الطريق إلى الله وعلى حديث قلبه الذي نأى به من ضوضاء الحياة إلى التأمل العميق, وإلى التهيؤ لمصافحة الحق وتلقيه..
نقول لئن كان شباب كل منهما قد اتخذ وجهة مغايرة, فان حمزة لم تغب عن وعيه لحظة من نهار فضائل تربه وابن أخيه.. تلك الفضائل والمكارم التي كانت تحلّ لصاحبها مكانا عليّا في أفئدة الناس كافة, وترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم.
في صبيحة ذلك اليوم, خرج حمزة كعادته.
وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وساداتها فجلس معهم, يستمع لما يقولون..
وكانوا يتحدثون عن محمد..
ولأول مرّة رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه.. وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد, والغيظ والمرارة.
لقد كانوا من قبل لا يبالون, أو هم يتظاهرون بعدم الاكتراث واللامبالاة.
أما اليوم, فوجوههم تموج موجا بالقلق, والهمّ, والرغبة في الافتراس.
وضحك حمزة من أحاديثهم طويلا.. ورماهم بالمبالغة, وسوء التقدير..
وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر الإنس علما بخطر ما يدعو إليه محمد ولكنه يريد أم يهوّن الأمر حتى تنام قريش, ثم تصبح يوما وقد ساء صاحبها, وظهر أمر ابن أخيه عليها...
ومضوا في حديثهم يزمجرون, ويتوعدون.. وحمزة يبتسم تارّة, ويمتعض أخرى, وحين انفض الجميع وذهب كل إلى سبيله, كان حمزة مثقل الرأس بأفكار جديدة, وخواطر جديدة. راح يستقبل بها أمر ابن أخيه, ويناقشه مع نفسه من جديد...!!!
ومضت الأيام, ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول..
ثم تتحوّل همهمة قريش إلى تحرّش. وحمزة يرقب الموقف من بعيد..
إن ثبات ابن أخيه ليبهره.. وان تفانيه في سبيل إيمانه ودعوته لهو شيء جديد على قريش كلها, برغم ما عرفت من تفان وصمود..!!
ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه, فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد إلى وعي حمزة منفا أو سبيلا..
فحمزة خير من عرف محمدا, من طفولته الباكرة, إلى شباب الطاهر, إلى رجولته الأمينة السامقة..
انه يعرفه تماما كما يعرف نفسه, بل أكثر مما يعرف نفسه, ومنذ جاءا إلى الحياة معا, وترعرعا معا, وبلغا أشدّهما معا, وحياة محمد كلها نقية كأشعة الشمس..!! لا يذكر حمزة شبهة واحدة ألمّت بهذه الحياة, لا يذكر أنه رآه يوما غاضبا, أو قانطا, أو طامعا,أو لاهيا, أو مهزوزا...
وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب, بل وبرجاحة العقل, وقوة الإرادة أيضا..
ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متابعة إنسان يعرف فيه كل الصدق وكل الأمانة.. وهكذا طوى صدره إلى حين على أمر سيتكشّف في يوم قريب..
وجاء اليوم الموعود..
وخرج حمزة من داره,متوشحا قوسه, ميمّما وجهه شطر الفلاة ليمارس هوايته المحببة, ورياضته الأثيرة, الصيد.. وكان صاحب مهارة فائقة فيه..
وقضى هناك بعض يومه, ولما عاد من قنصه, ذهب كعادته إلى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعا إلى داره.
وقريبا من الكعبة, لقته خادم لعبدالله بن جدعان..
ولم تكد تبصره حتى قالت له:
" يا أبا عمارة.. لو رأيت ما في ابن أخيك محمد آنفا, من أبي الحكم بن هشام.. وجده جالسا هناك , فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره"..
ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول الله..
واستمع حمزة جيدا لقولها, ثم أطرق لحظة, ثم مد يمينه إلى قوسه فثبتها فوق كتفه.. ثم انطلق في خطى سريعة حازمة صوب الطعبة راجيا أن يلتقي عندها بأبي جهل.. فان هو لم يجده هناك, فسيتابع البحث عنه في كل مكان حتى يلاقيه..
ولكنه لا يكاد يبلغ الكعبة, حتى يبصر أبا جهل في فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش..
وفي هدوء رهيب, تقدّم حمزة من أبي جهل, ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه, وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة, صاح حمزة في أبي جهل:
" أتشتم محمدا, وأنا على دينه أقول ما يقول..؟! إلا فردّ ذلك عليّ إن استطعت"..
وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الإهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل والدم لذي ينزف من رأسه, وشغلتهم تلك الكلمة التي حاقت بهم كالصاعقة.. الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى ما يراه, ويقول ما يقوله..
أحمزة يسلم..؟
أعزّ فتيان قريش وأقواهم شكيمة..؟؟
أنها الطامّة التي لن تملك قريش لها دفعا.. فإسلام حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالإسلام, وسيجد محمد حوله من القوة والبأس ما يعزز دعوته ويشدّ أزره, وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم أصنامها وآلهتها..!!
أجل أسلم حمزة, وأعلن على الملأ الأمر الذي كان يطوي عليه صدره, وترك الجمع الذاهل يجترّ خيبة أمله, وأبا جهل يلعق دماءه النازفة من رأسه المشجوج.. ومدّ حمزة يمينه مرّة أخرى إلى قوسه فثبتها فوق كتفه, واستقبل الطريق إلى داره في خطواته الثابتة, وبأسه الشديد..!
كان حمزة يحمل عقلا نافذا, وضميرا مستقيما..
وحين عاد إلى بيته ونضا عنه متاعب يومه. جلس يفكر, ويدير خواطره على هذا الذي حدث له من قريب..
كيف أعلن إسلامه ومتى..؟
لقد أعلنه في لحظات الحميّة, والغضب, والانفعال..
لقد ساءه أن يساء إلى ابن أخيه, ويظلم دون أن يجد له ناصرا, فيغضب له, وأخذته الحميّة لشرف بني هاشم, فشجّ رأس أبي جهل وصرخ في وجهه بإسلامه...
ولكن هل هذا هو الطريق الأمثل لك يترك الإنسان دين آبائه وقومه... دين الدهور والعصور.. ثم يستقبل دينا جديدا لم يختبر بعد تعاليمه, ولا يعرف عن حقيقته إلا قليلا..
صحيح أنه لا يشك لحظة في صدق محمد ونزاهة قصده..
ولكن أيمكن أن يستقبل امرؤ دينا جديدا, بكل ما يفرضه من مسؤوليات وتبعات, في لحظة غضب, مثلما صنع حمزة الآن..؟؟؟