بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
سؤال وجه لشريح : أيها الأخوة المؤمنون, مع الدرس الثامن من دروس سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم، والتابعيُّ اليوم هو القاضي شريح .
قيل لشريح: (بأي شيء أصبت هذا العلم, فقال: بمذاكرة العلماء، آخذ منهم وأعطيهم).
أيها الأخوة, ما من شيء في الحياة الدنيا أمتع للمؤمن؛ من أن يذاكر المسلمُ أخاه شؤونَ العلم، فجلسة العلم، ومذاكرة العلم، والاستماع للعلم، والنطق بالعلم, شيء يليق بالإنسان المسلم ، قال تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 1-3] الحقيقة الكبرى في الكون؛ أنّ أيّة مذاكرة تبعدك عن هذه الحقيقة فهي لهو، وأيّة مذاكرة تقرِّبك من هذه الحقيقة فهي حق .
ماذا عن العدل ؟
أيها الأخوة, ليس من عادتي أن أتحدث عن أهل الغرب، ولكن أعجبتني كلمة قالها زعيم بريطاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث اجتمع بوزرائه، وقد أتت الحرب على كل شيء، لا معمل، ولا حق، ولا مال، ولا شيء، الحرب المدمرة لا تبقي ولا تذر، تطحن الناس طحناً، فسأل هذا الزعيم وزراءه وزيراً وزيراً: كيف الصناعة عندك يا فلان؟ قال: المعامل كلها مدمرة، كم في حوزتك من المال يا وزير المالية؟ قال: لا شيء، سألهم وزيراً، وكل وزير بحسب اختصاصه, أظهر أن البلاد مدمرة عن آخرها، وصل إلى وزير العدل، قال: يا فلان كيف العدل عندك؟ قال: بخير, قال: كلنا بخير, نحن بخير إذا أخذ العدل مجراه، كلمة قالها زعيم بريطاني لوزرائه في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
الدرس اليوم عن القاضي شريح, وقد ورد في الأثر: (عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة) .
ومن طريق أبي نعيم بلفظ: (عدل حكم ساعة خير من عبادة سبعين سنة) .
فلا شيء يرفع الإنسان كالعدل، وقد يتوهم أحدكم أن العدل للقاضي، كل واحد منكم قاضٍ؛ الأب له أولاد فهو قاض بينهم، النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل، وتبع هذا الرجل ابنه الصغير، وضعه على رجله اليمنى وقبله، ودخلت ابنته بعد ذلك, وضعها على رجله اليسرى ولم يقبلها، فقال النبي الكريم: لمَ لم تسوي بينهما؟ لذلك فالمؤمن عادل، والدنيا كلها لا تساوي عنده شيئاً إذا اقتضت أن يقيم العدل بين الناس .
عمر بن الخطاب يولي شريح مرتبة القضاء في الكوفة : لقد ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ، ونقده ثمن الفرس، ثم امتطى صهوته، ومشى به، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس قليلاً, حتى ظهر فيه عطب, عاقه عن مواصلة الجري، فانثنى به عائداً من حيث انطلق، وقال للرجل: (خذ فرسك فإنه معطوب، فقال الرجل: لا آخذه يا أمير المؤمنين، وقد بعته منك سليماً صحيحاً، فقال عمر: اجعل بيني وبينك حكماً، قال الرجل: يحكم بيننا شريح ابن الحارث الكندي، فقال عمر: رضيت به .
احتكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وصاحب الفرس إلى شريح، فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر بن الخطاب، وقال: يا أمير المؤمنين, هل أخذت الفرس سليماً؟ فقال عمر: نعم، قال شريح: احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين، أو ردَّ كما أخذت .
نظر عمرُ إلى شريح معجباً! وغير عمر يحنق عليه .
-إنسان في بلد خليجي وجه إلى شخص مسؤول توصية، فقال له: هذه لا أنفذها لأنها خلاف العدل، فأزيح من منصبه- .
سيدنا عمر نظر إلى شريح معجباً! وقال: وهل القضاء إلا هكذا؟ -أيمكن أن يكون القاضي غير ذلك، هكذا القضاء؛ قول فصل، وحكم عدل- سِرْ إلى الكوفة، فقد ولّيتك قضاءها ، لأنه حَكَمَ عليه، وأُعجِب بهذه النزاهة، وبهذه الجرأة) .
كيف كانت مكانة شريح بين أبناء قومه, ومتى أسلم, وما هو موطنه, وهل يعد شريح من طبقة الصحابة أم التابعين ؟
لم يكن شريح بن الحارث يوم ولاه عمر بن الخطاب القضاء رجلاً مجهول المقام في المجتمع المدني، أو امرءاً مغمور المنزلة بين أهل العلم وأصحاب الرأي من جل الصحابة، وكبار التابعين، فقد كان من أصحاب الفضل وأهل السابقة يقدِّرون لشريح فطنته الحادة، وذكاءه الفذّ، وخلقَه الرفيع، وطول تجربته في الحياة وعمقها .
فهو رجل يَمَنِيُّ الموطن، كِنْدي العشيرة، قضى شطراً غير يسير من حياته في الجاهلية، فلما أشرقت الجزيرة العربية بنور الهداية، ونفذت أشعة الإسلام إلى أرض اليمن، كان شريح من أوائل المؤمنين بالله ورسوله، المستجيبين لدعوة الفضيلة والحق، وكان عارفو فضله، ومقدرو شمائله ومزاياه, يأسون عليه أشد الأسى، ويتمنّون أن لو أتيح له أن يفِدَ على المدينة مبكراً ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى، ولينهل من موارده الصافية المصفاة مباشرة بلا واسطة، ولكي يحظى بشرف الصحبة بعد أن حظي بنعمة الإيمان، وبذلك يجمع الخير من أطرافه، ولكن ما قدر الله كان .
إذاً: ليس شريحٌ صحابياً، لقد عاش في الجاهلية، وأسلم حينما جاء النبي بدعوته، ولكنه لم ينتقل من اليمن إلى المدينة إلا بعد أن توفى الله النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً: هو ليس صحابياً، ولكنه عاش الجاهلية، وعاش الإسلام .
كم هي المدة التي قضاها شريح في مجلس القضاء, ومتى استقال عن هذا المنصب, وكم مكث في الحياة الدنيا ؟
قضى القاضي شريح بين المسلمين أكثر من ستين عاماً، ويكاد يكون هذا الاسم من الأسماء المتألقة في سماء القضاء الإسلامي، لشدة ورعه، وحرصه على إنفاذ أمر الله، وتوِّخيه العدالة التامة، فقد تَعَاقَبَ على إقراره على منصبه كل من عمرَ بن الخطاب, وعثمانَ بن عفان ، وعليِّ بن أبي طالب، ومعاويةَ بن أبي سفيان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، كلُّ هؤلاء الخلفاء أقرُّوه في منصبه .
الحقيقة أحياناً يكون هناك إنسان مخلص جداً، رغم تبدل الحكومات لا يجرؤ أحد على أن يزحزحه من منصبه، لأنه بالتعبير الحديث يملأ منصبه علماً وإخلاصاً وإنتاجاً، وهناك تعبير عامي يقول لك: لا يصح إلا الصحيح، فإذا أخلص الإنسان وأتقن، وكان ملء السمع والبصر، فهذا الإنسان أقوى من التغييرات، وسيدنا عمر عيّنه، ثم أقرَّه سيدنا عثمان، وتتابع على إقراره سيدنا علي, وسيدنا معاوية، بل إن الخلفاء الذين جاؤوا بعد معاوية قد أقروه على منصبه، حتى إن شريحًا طلب إعفاءه من منصبه في أول ولاية الحجاج .
عاش هذا القاضي سبع سنوات بعد المائة الأولى للهجرة حياة مديدة رشيدة، حافلة بالمفاخر والمآسي، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا, قَالَ:
((يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ خَيْرُ النَّاسِ, قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)) زرت شخصاً قبل سنوات في أحد الأعياد، وهو والد صديق لي، عمره ستة وتسعون عاماً، قال لي بالحرف الواحد: قبل أيام أجريت تحليلات شاملة، فلم يكن هناك شيء غير طبيعي، ثم قال: واللهِ ما أكلت درهماً حراماً، ولا أعرف الحرام من النساء .
كنت قد حدَّثتكم عن رجل عاش ستةً وتسعين عاماً، أمضاها في تعليم النشء العلم الشرعي، وكان يتمتع بقامة منتصبة، وبصر حاد، وسمع مرهف, وكانت أسنانه في فمه، وكان يقول: حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً .
سمعت أن أحد شيوخ الأزهر الصالحين عاش مائة وثلاثين عاماً، وقد التقيت بابنه في أحد المؤتمرات في المغرب، قال: نعم, عاش أبي هذه السنوات .
اسمع هذه القصة : الحقيقة تاريخ القضاء الإسلامي يزدان ببدائع هذا القاضي الجليل، فمِن قصص هذا القاضي: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعاً عنده كانت أثيرة غالية عليه, المشكلة هنا مع أمراء، فالقضية مع أمير المؤمنين, مع سيدنا عمر حكم عليه، قال له: (أبق الفرس بحوزتك، أو رُدَّها كما أخذتها، وهذا حكم الله، قال له: هكذا القضاء، اذهب فقد وليتك قضاء الكوفة) .
سيدنا علي بن أبي طالب ما لبث إلا أن وجد هذه الدرع في يد رجل من أهل الكتاب يبيعها في سوق الكوفة، فلما رآها عرفها، وقال: (هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا ، وفي مكان كذا، فقال الذمي: بل هي درعي، وفي يدي يا أمير المؤمنين، فقال علي رضي الله عنه: إنما هي درعي لم أبعها لأحد حتى تصير إليك .
-هناك أشخاص يتوهمون أن المؤمن لا بد أنْ يُسقِط حقه، هذه بساطة وسذاجة، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾
[سورة الشورى الآية: 39] لكن إذا انتصروا, قال تعالى:
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾
[سورة الشورى الآية: 40] فإذا غلب على ظنك أنه بعفوك عن أخيك الظالم تقرِّبه إلى الله، وتقيله من عثرته، وتعينه على الشيطان, فينبغي أن تعفو عنه، وعندئذ أجرُك على الله، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك عن أخيك, يدعوه إلى مزيد من التطاول على الناس، وأخذ أموالهم، والاستخفاف بحقوقهم، فينبغي حينئذٍ ألاّ تعفو عنه، بل ينبغي أن تنتصر، وتقتصّ منه .
النبي عليه الصلاة والسلام جاءه أسير في بدر، وقد شكا له بناته المتلهفات له، ورجاه أن يعفو عنه، وتوسل إليه، فعفا النبي عليه الصلاة والسلام، وعاد الرجلُ إلى ما كان عليه مِن عداوة النبي، ومِن قتل أصحابه، ثم وقع أسيراً في أحد، فرجاه ثانية، قال: (لا أعفو عنك، لئلا تقول: خدعت محمداً مرتين) .
المؤمن له أظافر أحياناً، والمؤمن يطالب بحقه، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾
[سورة الشورى الآية: 39] أما أهل الدنيا فيريدون للمؤمن أنْ لو أُكِل حقُّه أن يسكت، يقولون: ألست مؤمنًا؟ وإذا كان مؤمناً, قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾
[سورة الشورى الآية: 39] يجب أن تنتصر مِن الذي بغى عليك، وإذا غلب على ظنك أنك بعفوك عنه تزيده طغياناً, فلا تعفُ عنه، كإنسان يقود المركبة بشكل أرعن، وسبَّبَ إيذاءً لإنسان, أخي سامحه، لا, إذا سامحه هذا، وسامحه ذاك, ازداد رعونة، أما إذا حوسب حسابًا عسيرًا, فلعل هذا الحساب يردعه .
لكن أحياناً لا يكون للشخص أيّ تقصير منه في القيادة، طفل ألقى نفسه أمام المركبة، أنت إذا عفوت عنه، وقلت: هذا قضاء وقدر، فقد قرّبته من الله عز وجل، فأنت المفتي، أمّا إذا غلب على ظنك أن العفو يقربه من الله، ويقيل عثرته، ويعينه على الشيطان، فينبغي في هذه الحالة أن تعفو عنه، وأجرك على الله، أما إذا غلب على ظنك أن عفوك يزيده تطاولاً وجرأة واستخفافاً بحقوق الآخرين, فينبغي ألاّ تعفو عنه، بل ينبغي أن تقتص منه، وأن تنتقم منه، والانتقام بالمعنى الدقيق أنْ توقف الظالم عند حده، هذا هو الانتقام، فقدْ يفهم الناسُ من الانتقام فهماً آخر، على أنه عملية حقد، لا, قال تعالى:
﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
[سورة الزخرف الآية: 25] أي أوقفناهم عند حدهم، وردعناهم، هذا معنى الانتقام- .
فقال الذمي: بيني وبينك قاضي المسلمين .
فقال علي: أنصفت، فَهَلُمَّ إليه .
ثم إنهما ذهبا إلى شريح القاضي، فلما صارا عنده في مجلس القضاء، قال شريح لعلي رضي الله عنه: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ .
قال: لقد وجدت درعي هذه مع هذا الرجل، وقد سقطتْ مني في ليلة كذا، وفي مكان كذا، وهي لم تصل إليه لا ببيعٍ ولا بهبة .
قال شريح للذمي: وما تقول أنت أيها الرجل؟.
فقال: الدرع درعي، وهي في يدي .
كونها في يدي معناها درعي، ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب، لكنها درعي .
فالتفت شريح إلى عليّ كرم الله وجهه، وقال: لا ريب عندي بأنك صادق يا أمير المؤمنين .
أمير المؤمنين، صحابي جليل، باب مدينة العلم، ابن عم رسول الله, ليس معقول أن يكذب، ومع ذلك قال له شريح: لكن لا بد لك من شاهدين يشهدان على صحة ما ادّعيت .
فقال علي: نعم, مولاي قنبر، وولدي الحسن يشهدان لي .
فقال شريح: ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز يا أمير المؤمنين .
فقال علي: يا سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) قال شريح: بلى يا أمير المؤمنين، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده .
عند ذلك التفتَ عليٌّ إلى الذميِّ، وقال: خذها فليس عندي شاهد غيرهما .
فقال الذمي: ولكني أشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين، ثم أردف قائلاً: أمير المؤمنين، يقاضيني أمام قاضيه، وقاضيه يقضي لي عليه، أشهد أن هذا الدين الذي يأمر بهذا لحقٌّ، وأشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله، وأسلم .
-شيء لا يُصدق، أمير المؤمنين، والدرع درعه، والقاضي من جماعته، ويشدد هذا القاضي في الإجراءات التامة لتأخذ العدالة مجراها- وقال هذا الذمي: اعلمْ أيها القاضي أن الدرعَ درعُ أمير المؤمنين، وأني اتبعتُ الجيشَ، وهو مُتَّجهٌ إلى صفين، فسقطتْ الدرعُ عن جمله الأورق, فأخذتها .
فقال له علي رضي الله عنه: أما وأنك قد أسلمت, فإني قد وهبتها لك، ووهبت لك معها هذا الفرس أيضاً) .
حدثني أخ كريم عنده معمل، فقال لي: في كل يوم يجد نقصًا شديدًا في البضاعة، ونقصًا في المال، قال: فرَّغتُ إنسانًا حتى يراقب، ولم نعثر على إنسان نتهمه بهذا، فكان الذي يسرق على مستوى عالٍ جداً من الحنكة، يضع في جيبه بضع مئات يفتقدها ظهراً، يحسب البضاعة صباحاً فتنقص مساءً، فرّغ إنسانا كلياً ليراقب فلم يعثر على شيء .
قال لي: بعد عشر سنوات طرق بابي شاب، وقال: واللهِ لم أعرفه، فلما دخل عليَّ قال: أنا فلان الفلاني، كنت أعمل عندك في هذا المعمل، وكنت آخذ من مالك، ومن بضاعتك ، وأنت لا تدري، ولكني تبت إلى الله، وها أنا ذا عائد إليك كي أدفع لك ما عليّ من ذمم .
صاحب المعمل هو أخ من أخواننا، قال له: هذا الذي عليك اتجاهي من بضاعة ومال, وهبتُه لك نظير توبتك وإنابتك إلى الله، ولن أسأل عنه بعد اليوم، وكُلْهُ هنيئاً مريئاً, وإذا أردتَ أن تعود إلى المعمل فمكانك محفوظ .
أنت كمسلم إذا ضلَّ الشخصُ ثم اهتدى, ألا تفرح؟ ألا تحسّ أن قلبك امتلأ فرحًا؟ ألا تكافئ هذا الإنسان مقابل إسلامه بشيء من العطاء؟ .
أيها الأخوة، إنّ الإنسان إذا لم يفرح بأخيه عندما يسلم، أو عندما يصطلح مع الله, لا يكون عنده إيمان، ومن علامات الإيمان؛ أنَّ خبرَ اصطلاحِ إنسانٍ مع الله وتوبته له لا يُقدر بثمن .
لم يمض على هذا الحادث زمن طويل, حتى شوهد الرجل يقاتل الخوارج تحت راية علي بن أبي طالب يوم النهروان، ويمعن في القتال حتى كُتبت له الشهادة .
شريح يحكم بالعدل في مجلس القضاء بين أقرب الناس إليه : هذا القاضي أيضا, قال له ابنه يوماً: (يا أبت, إن بيني وبين قوم خصومة، فانظر فيها، فإنْ كان الحقُّ لي قاضيتُهم، وإنْ كان لهم صالحتُهم سلفاً .
-أراد ابن شريح أن يعرِض على والده قضيةً بين ابنه وبين أشخاص في خصومة، ثم قصّ عليه قصّته, قال: انطلق فقاضِهم .
ما معنى ذلك؟ الحق لابنه- .
فمضى إلى خصومه، ودعاهم إلى المقاضاة، فاستجابوا له، فلمّا مثلوا بين يدي شريح قضى لهم على ولده، فلما رجع شريح وابنه إلى البيت, قال الابن لأبيه: فضحتني يا أبت، واللهِ لو لم أستشرك من قبل لمّا لُمْتُك .
أنا استشرتك، إذا كان الحقُّ عليَّ صالحتُهم، وإذا كان الحق معي أقاضيهم, فقال شريح: يا بني، والله لأنتَ أحبُّ إلي من ملء الأرض من أمثالهم، ولكن الله عز وجل أعزُّ عليَّ منك .
أخبرك بأن الحق لهم فتصالحهم صلحاً يفوت عليهم بعض حقهم، فقلت لك ما قلت) .
أعرف رجلاً توفي رحمه الله، كان يعمل في منصب حساس في التربية والتعليم، ابنه في إحدى الشهادات لم ينجح في بعض المواد، هذه الورقة عُرضت على أربع لجان، وأغلق الاسم، التصحيح فيه خطأ، فقال: واللهِ لا أنجِّحُه، لأنه لم يُتحْ لكل الطلاب المظلومين هذه الفرصة، وأبقاه .
فالعدالة المطلقة شيء لا يُقدر بثمن .
سمعت عن قاضٍ رُفعت إليه قضية، طبعاً أحد المُدَّعى عليه موقوف، قدّم المحامي أول مذكرة لإطلاق سراحه، فلم يُستَجَبْ له، وثاني مذكرة لم يستجب، والثالثة لم يستجب، والرابعة لم يستجب، والخامسة لم يستجب .
فالموكلون عزلوا المحامي، ووكَّلوا محاميًا آخر، القاضي بعيداً عن هذا الذي جرى, بدا له أن يطلق سراح هذا المتهم، فإذا أطلق سراح هذا المتهم بطلب أول من المحامي الجديد ، ماذا يُفهم؟ أن ذاك المحامي فشل، وأن هذا متألق .
استدعى الموكلين، قال: أبلغوا المحامي السابق أن يقدم طلب الإفراج, ولن أستجيب إلا له، كي يحفظ له كرامته .
الإنسان كلما ارتقى يتقصى العدالة .
من مواقف شريح في مجلس القضاء : مرة كفل ولد لشريحٍ رجلاً، فقبِل شريحٌ كفالَته، فما كان من الرجل إلا أنْ فرَّ هارباً من القضاء، فسجن شريحٌ ابنَه بالرجل الفارِّ .
الكفيل مسؤول، وكان شريح ينقل إليه طعامه بيده كل يوم إلى السجن، لقد أمر بسجنه, وصار يقدم له الطعام كلَّ يوم بنفسه .
أحياناً كانت الشكوكُ تساورُ شريحاً في بعض الشهود، غير أنه لا يجد سبيلاً لدفع شهادتهم؛ لما توافر من شروط العدالة, فكان يقول لهم قبل أن يدلوا بشهادتهم:
(اسمعوا مني هداكم الله، إنما يقضي على الرجل أنتم، وإني لأتقي النار بكم، أنتم مسؤولون، وأنتم باتقائها أولى، وإنّ في وسعكم الآن أنْ تدعوا الشهادة وتنصرفوا, فإذا أصروا على الشهادة, التفتَ إلى الذين يشهدون له، وقال: اعلم يا هذا, أنني أقضي لك بشهادتهم، وإني لأرى أنك ظالم، ولكني لست أقضي بالظن، إنما أقضي بشهادة الشهود، وإن قضائي لا يحلُّ لك شيئاً حرّمه الله عليك .
-ومن باب أولى، النبي عليه الصلاة والسلام سيّد الخلق، وحبيبُ الحقّ, لو أن إنساناً أدلى إليه بحجة مقنعة، بلسان طليق، وبيان ساطع، فَحَكَمَ النبيُّ له، فهل ينجو هذا الذي حُكِمَ له من عذاب الله؟ لا ينجو .
عندنا قاعدة فقهية أساسية: إنّ حكم القاضي لا يجعل الحق باطلاً، ولا الباطل حقاً، حكمُ القاضي لا يغيِّر شيئاً أبداً، فإذا معك حكم القاضي, فهذا الحكم لا ينجيك يوم القيامة- .
كان هذا القاضي, يقول: غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر، إنّ الظالم ينتظر العقاب، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفَ .
-إذا افترق الزوجان، ولم نعرف مَن الظالم، الزوج أم الزوجة, الظالم في الأغلب الأعم لا يُوفَّق في زواجه القادم، والذي يُوفق في زواجه الثاني المظلوم دائماً- .
قال: غداً سيعلم الظالم مِن الخاسر، إنّ الظالم ينتظر العقاب، وإنّ المظلوم ينتظر النَّصفة (العدل)، وإني أحلف بالله عز وجل أنه ما من أحد ترك شيئاً لله عز وجل, ثمَّ أحس بفقده) .
من نصائح شريح لعامة المسلمين : روي أن أحدهم, قال: (سمعني شريح، وأنا أشتكي بعض ما أغمّني من صديق، فأخذني من يدي، وانتحى بي جانباً، وقال: يا ابن أخي, إياك والشكوى لغير الله عز وجل، فإن مَن تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقاً أو عدواً، فإن كان صديقاً أحزنته، وإن كان عدواً شَمَتَ بك.
ثم قال: انظر إلى عيني هذه، وأشار إلى إحدى عينيه، فو الله ما أبصرتُ بها شخصاً ، ولا طريقاً منذ خمس عشرة سنة، ولكنني ما أخبرت أحداً بذلك إلا أنت في هذه الساعة، أما سمعت قول العبد الصالح:
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
[سورة يوسف الآية: 86] يعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم .
إنّ المؤمن كلما ارتقى إيمانه لا يبثّ شكواه إلى أحد إلاّ الله، علمُك بحالي يغني عن سؤالي .
هناك إنسان كثير الشكوى، كلما جلس يشكو، يشكو ما في سوق، ويشكو بيته وأولاده، فتملّ منه، كيفما جلس يشكو، لكن المؤمن:
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
[سورة يوسف الآية: 86] فاجعل الله عز وجل موضع شكواكَ، وموضع حزنك عند كل نائبة تنوبك، فإنه أكرم مسؤول، وأقرب مدعو .
ومن نصائحه ايضا
رأى ذات يوم إنسانًا يسأل آخر شيئاً، فقال له: (يا ابن أخي, من سأل إنساناً حاجة فقد عرّض نفسَه على الرق .
وقد قيل: احتجْ إلى الرجل تكن أسيره، استغن عنه تكن نظريه، أحسن إليه تكن أميره, كائناً من كان، -فقد تكون أنت إنسانًا عاديًّا مكتفِيًا، لكن حينما تستغن عن الناس, فأنت نظيرهم، أنت وأقوى شخص سواء, إذا استغنيت عنه، أما إذا سألته، وتضعضعت أمامه, فأنت أسيره، أما إذا أكرمته, فأنت أميره- .
قال له: يا ابن أخي, من سأل إنساناً حاجة, فقد عرَّض نفسه على الرق، فإنْ قضاها له المسؤول فقد استعبده بها، وإنْ ردّه عنها رجع كلاهما ذليلاً ، هذا بذلَ البخلَ، وذاك بذلَ الردَّ، فالبخيل ذليل، والذي يسأل ذليل) .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا, فَقَالَ:
((يَا غُلَامُ, إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ))
من نصائحه لأهل الخاصة : وقع في الكوفة طاعون، فخرج صديقٌ لشريح منها إلى النجف، يبتغي المهرب من الوباء، فكتب شريح إليه: أما بعد؛ فإن الموضع الذي تركته لا يقرب حُمامك، ولا يسلب منك أيامك، وإن الموضع الذي سرت إليه في قبضة مَن لا يعجزه طلب، ولا يفوته هرب، وإنا وإياك لعلى بساط ملك واحد، وإن النجف من ذي قدرته لقريب .
كان شريح شاعراً، له شعر قريب المأخذ، حلو الأداء طريف الموضوعات .
روي عنه أنه كان له صبي في نحو العاشرة من عمره، وكان الصبي مؤثراً اللهو، مولعاً باللعب، فافتقده ذات يوم، فإذا هو قد ترك الكتاب، ومضى يتفرج على الكلاب, فلما عاد إلى المنزل سأله: أصليت؟ قال: لا, فدعا بقرطاس وقلم, وكتب إلى مؤدِّبه, يقول:
ترك الصلاة لأكلب يسعى لها يبغي الهراش مع الغواة الرجس
فليأتينك غـدوة بصحيفـــة كتبت له كصحيفـــة المتلمس
فإذا أتاك فـداوه بملامـــة أو عظه موعظة الأديب الكيـس
وإذا هممـت بضربه فبـدرة وإذا بلغت ثلاثــة لك فاحبـس
واعلم بأنك مــا أتيت فنفسه مع ما يجرعنــي أعـز الأنفس
خلاصة القول : أيها الأخوة، هذا غيض من فيض عن التاريخ الذهبي في القضاء الإسلامي، وكان هذا القاضي شريح قد شغل منصب القضاء ستين عاماً، ملأ أيام قضائه عدالة وإنصافاً، ونزاهة وفخراً، والإنسانُ ينبغي أن يقتدي بشريح، ولو لم يكن قاضياً, أنت قاضٍ بين أولادك، قاضٍ بين موظفيك، قاضٍ بين أقربائك، قاضٍ بين ابنك وزوجته، أو بين ابنتك وزوجها، أنت قاضٍ دائماً، فالإنسان المؤمن ينصف، قال تعالى:
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾
[سورة المائدة الآية: 2] لو كان الطرف الآخر مجوسيًّا، لو كان كافرًا، لو كان منافقًا، لو كان مشركًا، لو كان فاسقًا، لو كان عاصيًا، ألزم الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم .والحمد لله رب العالمين