قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى في آخر الزمان: «ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم إماما مقسطا وحكمًا عادلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية» (1) ومعنى الحديث، أن كسر الصليب وقتل الخنزير جاء ضمن أربعة أعمال(2)، تمثل المهمة الأساسية التي سينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان من أجلها، حيث قال بعد ذكر هذه العناصر: "ويصير الدين ملة واحدة"، وهو ما يعني أن إقامة الدين في آخر الزمان تكون بصورة أساسية بكسر الصليب وقتل الخنزير، لأن وضع الجزية -الذي يعنى إلغاءها- مترتب على وقف التعامل مع النصارى كأهل كتاب، بعد القضاء على دينهم المحرف بكسر الصليب وقتل الخنزير.
ولما كان الدين عقيدة وشريعة كان كسر الصليب إعلانًا عن تصحيح العقيدة، وقتل الخنزير عنوانًا لإقامة الشريعة.
وقد تبين في مقال سابق رمزية الصليب على تحريف العقيدة النصرانية (4)، حيث أن معنى الصليب -كشكل- يفسره قول الله عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] وهذا المعنى يكمن في العلاقة بين الصليب والصراط. التي يفسرها هذا الحديث: عن عبد الله، قال: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثم قال: (هذا سبيل الله) ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: (هذه سُبل قال يزيد: متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها) ثم قرأ هذه الآية: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}» (4) [الأنعام: 153].
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رسم خطًّا ليعبر عن معنى صراط الله المستقيم في تفسير هذه الآية. فإن التعبير عن قول الله عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] سيكون رسم خطٍ مستقيمٍ يمثل صراط الله المستقيم، وخطٍّ آخرٍ قصيرٍ يقطعه ليمثل كلمة {لَأَقْعُدَنَّ} أي: لأقطعن يكون الشكل النهائي: خطًّا قصيرًا يقطع خطًا مستقيمًا وهو الصليب! الذي يمثل الصورة الرمزية لقعود إبليس للناس على صراط الله سبحانه وتعالى.
أما رمزية قتل الخنزير فإن معناها يتحدد من العلاقة المتقابلة بين الخنزير والملة الواحدة القائمة على التوحيد من خلال التوافق والإقتران بين الخنزير وعبدة الطاغوت في قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60].
ومن هنا كان أكل الخنزير من موانع الإسلام حيث بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكل الخنزير من موانع الإسلام، إذ ورد أنه لما جاء وفد نجران المدينة عرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فقالوا له: أسلمنا قبلك. قال: «كَذَبْتُم، يَمْنَعُكُم مِنَ الإسْلامِ دُعاؤُكُم لِلّهِ عَزّ وَجَلّ ولدًا، وَعِبادَتُكُم الصَّلِيبَ، وأكْلُكُم الخِنْزِيرَ» (5).
ويؤكد هذا المعنى الإرتباط بين أكل لحم الخنزير وشرك الذبائح في قول الله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3].
وكذلك الربط بين تحريم بيع الخنزير مع الأصنام: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» (6).
أما الدلالة الرمزية لاستحلال لحم الخنزير على تحريف الشريعة فتتمثل في عدة جوانب:
أولاً: أن حكم تحريم الخنزير من الأحكام التي لا تقبل النسخ، بسبب أن علة تحريمه راجعة إلى طبيعته التي لا تتغير! وهناك دلالة ثابتة للتعبير القرآني: { لَحْمُ الْخِنزِيرِ} وهي أن لحم الخنزير ينفرد من بين جميع اللحوم المذكورة في آيات التحريم بأنه حرام لذاته؛ أي لعِلة مستقرة فيه، ووصف ملتصق به.
وتفسير معنى اسم "الخنزير" ومشتقاته التي تدور جميعًا حول معنى "النتن" تؤكد هذه الدلالة. فجذر الإسم: خنز يخنز إذا أنتن، ومنه الخنزوان وهو الخنزير، والخنازير: قروح صلبة تكون في الرقبة، والعرب تضرب بالخنزير مثل القبح والخبث، فيقولون: القبح ضد الحسن يكون في الصورة كقبوح الخنازير، ويقولون: السحت هو ما خبث من المكاسب كثمن الخنزير والجمع أسحات، كما يقول العرب الخزنزر: سيِّئ الخلق، وأخزر: المرأة البغي، ويقولون: يعفر: الخنزير الذكر، وهو أيضًا الرجل الخبيث، وهذا المعنى هو الوارد في تفسير قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3].
ولذلك أورد ابن كثير قول أبي الطفيل: نزل آدم بتحريم أربع: "الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به" وأن هذه الأربعة أشياء لم تحل قط، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم، وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه (7).
مما يعني أن حرمة لحم الخنزير حرمة مطلقة لا تخضع للإختلاف بين كل الشرائع، كما لا تخضع للنسخ في الشريعة الواحدة.
ثانيًا: أن تحريم الخنزير حكمٌ يقاس عليه في أحكام التحريم، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» (
. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من باع الخمر فليشقص الخنازير» (9).
وعن ابن عباس، في قوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] قال: كلحم الخنزير. وعن عبد الله بن عمر قال: "اللاعب بالنرد قمارًا كآكل لحم الخنزير، واللاعب بها من غير قمار كالمدّهن بوَدَك الخنزير". ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا.