[size=25][size=21]
الحمد لله أوجد الكائنات بقدرته
، وفاوت بينها بحكمته ،
أحاط بكل شيء علماً
، ووسع كل شيء حكماً، أحمده
سبحانه وأشكره،
عمَّنا فضلاً وإنعاماً،
وأولانا عقولاً وأفهاما،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، جلّ عن الشريك والنظير،
وتنزَّه عن الصاحبة والظهير، وكل
الخلق إليه فقير،
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً
عبد الله ورسوله،
الرسول الأمين،
ورحمة الله للعالمين أجمعين،
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك
ورسولك سيدنا محمد،
وعلى آله وأصحابه وذريته،
ومن اقتفى أثره وسار على طريقه
وسنته، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم
الدين.
أمـــا
بعـــد :
فأوصيكم – أيها الناس – ونفسي
بتقوى الله عز وجل،
فاتقوا الله رحمكم الله، تقربوا
إليه بطاعته، والإكثار من ذكره وشكره،
وحسن عبادته، تودّدوا إليه
بالتحدث بنعمه، والإحسان إلى خلقه،
تعرفوا إليه في الرخاء يعرفْكم
في الشدة، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى،
ومن خاف اليوم أمِن غداً، والربح
لمن باع الفاني بالباقي،
والخسران لمن سدّت مسامعه
الشهوات، وآثر الحياة
الدنيا.
أيها
المسلمون، الإنسان ضعيف لا قوة له إلا حين
يتصل بربه،
الإنسان تواجهه قوى الشر، وتثقل
عليه المقاومة بين دفع الشهوات وإغرءات
المطامع،
يثقل عليه مجاهدة الطغيان،
وتطول به الجادَّة، وتبعد عليه الشُقَّة،
وليس له في هذه الأمواج العاتية،
ولا مفزع من التيارات الجارفة إلا الاعتصام
بالله،
واللياذ بجنابه
.
عباد
الله، حديثنا اليوم عن أهمِّ العبادات في
الإسلام، وأعظمها اتصالاً بالله سبحانه،
تلكم هي العبادة التي يفزع إليها
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر،
وقرّة عينه إذا ضاقت عليه
المسالك.
الصلاة مورد النبع الذي لا يغيض،
والكنز الذي يغني ويقني ويفيض حين تستحكم الأمور،
ويشتد هجير
الحياة،
((يا بلال، أقم
الصلاة، أرحنا بها))
.
الصلاة هي عمود الإسلام، وهي
بإذن الله مفزع التائبين وملجأ الخائفين،
ونور المتعبّدين، وبضاعة
المتاجرين، تجلو صدأ القلوب بأنوارها،
وتزيل حُجُب الغفلات بأذكارها،
وتنير الوجوه بأسرارها وآثارها،
ومن كان أقوى إيماناً كان أحسن
صلاة، وأطول قنوتاً، وأعظم
يقيناً.
جاء
في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه
أن
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال
:
((الصلاة خير موضوع، فمن
استطاع أن يستكثر منها فليستكثر))
أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن
.
عباد الله، وتأتي صلاة الليل والتهجد
في الأسحار ليتجلى هذا الاتصال بالله العلي
الأعلى،
في صورة من التعبّد بهية بهيجة،
فقد
صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
((أفضل الصلاة بعد
الصلاة المفروضة صلاة الليل))
أخرجه مسلم في
صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
.
ولقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من
أهل العلم،
والقدوة الأولى والأسوة العظمى نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم
كان
يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه الشريفتان .
[مُخرَّج في الصحيحين]
.
((وربنا
ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل
فيقول :
أنا الملك من الذي
يدعوني فأستجيب له؟!
من الذي يسألني فأعطيه؟!
من الذي يستغفرني فأغفر
له؟!))
وفي حديث عمرو بن عبسة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أقرب ما يكون الرب من
العبد في جوف الليل الآخر،
فإن استطعت أن تكون ممن
يذكر الله في تلك الساعة فكن))
،
بل
((إن في الليل ساعةً لا
يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله
إياه، وذلك كل ليلة)).
في
صلاة الليل يحيا بها - بإذن الله - ميِّت القلوب،
وتشحَذ بها فاتر الهمم،
قربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الإثم،
وتكفيرٌ للسيئات،
ومطردةٌ للداء عن الجسد، وفي
الحديث:
((عليكم بقيام الليل،
فإنه دأب الصالحين قبلكم))
،
يقول وهب بن منبه يرحمه الله :
"
قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعزُّ به الذليل،
وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات،
وليس للمؤمن راحة دون الجنة"
،
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما :
(
من أحب أن يهوِّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة
فليره الله في ظلمة الله ساجداً
وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه )
.
إنهم عباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً
وقياماً، انتزعوا نفوسهم من وثير الفرش،
وهدوء المساكن، وسكون الليل، وسكون
الكون، غالبوا هواتف النوم،
وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعد
الله، والخوف من وعيده،
((
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً
وَقَائِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ
رَبّهِ ))
[الزمر:9].
عبادٌ لله قانتون متقون،
((
قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
**وَبِٱلأَسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ))
[الذاريات:17،
18].
لصلاة الليل عندهم أسرارها، وللأذكار
في نفوسهم حلاوتها،
وللمناجاة عندهم لذّتها،
يقول أبو سليمان الداراني يرحمه الله
:
"أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل
اللهو في لهوهم، ولولا الليل لما أحببت البقاء في
الدنيا" ،
ولما حضرت ابن عمر رضي الله عنهما
الوفاة قال :
( ما آسى على شيء
من الدنيا إلا عن ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل )
.
قيام الليل انقطاعٌ عن صخب
الحياة، واتصال بالكريم الأكرم جل وعلا،
وتلقي فيوضه ومنحه، والأنس به
والتعرض لنفحاته والخلوة
إليه.
الله أكبر، ما طاب لهم المنام لأنهم
تذكروا وحشة القبور، وهول المُطَّلع يوم النشور،
يوم
يُبعَث ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور،
ولهذا قال قتادة يرحمه
الله:
"ما سهر الليل
بالطاعة منافقٌ"
.
عبادٌ لله صالحون،
((
تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا
رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ *
فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ
لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ ))
[السجدة:16،
17].
لقد
تعدَّدت مقاصدهم، واختلفت مطالبهم، وتنوّعت غاياتهم،
والليل هو منهلُهم وموردهم،
((
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ))
[البقرة:60].
فهذا محبٌ يتنعّم بالمناجاة، وذلك
محسنٌ يزداد في الدرجات، ويسارع في الخيرات،
ويجدّ في المنافسات، وآخر خائفٌ
يتضرّع في طلب العفو، ويبكي على الخطيئة
والذنب،
ورَاجٍ يلحّ في سؤاله، ويصرّ
على مطلوبه، وعاصٍ مقصّر يطلب
النجاة،
ويعتذر عن التقصير وسوء العمل،
كلهم يدعون ربهم، ويرجونه خوفاً وطمعاً،
فأنعم عليهم مولاهم، فأعطاهم
واستخلصهم واصطفاهم، وقليل ما
هم.
اكتفوا من الليل بيسير النوم، مشتغلين
بالصلاة والقرآن والذكر والصوم،
تلكم هي همم القوم، وتأملوا هذه
الآيات العظيمة:
((
وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً
طَوِيلاً *
إِنَّ هَـٰؤُلاَء يُحِبُّونَ
ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً
ثَقِيلاً ))
[الإنسان:26،
27].
الليل ميدان ذوي الهمم العالية
من أصحاب العبادات والدعوات،
هو
الزاد الصالح لرحلة الحياة، أما الذين
يحبون العاجلة،
فصغار الهمم صغيرو المطالب، يغرقون في
العاجلة،
((
وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ))،
وفي
هذا يقول بعض السلف يرحمهم الله :
"
كيف يرجو النجاة من سوء الحساب من ينام الليل ويلهو
بالنهار؟!!".
أما كثير من أبناء هذا العصر
فلهوهم قد استغرق الليل والنهار، نعوذ بالله من
الخذلان.[/size]
[/size]