البوابة الرسمية للأساتذة بالجزائر
سلسلة قواعد قرانية Uuoou_10
البوابة الرسمية للأساتذة بالجزائر
سلسلة قواعد قرانية Uuoou_10
البوابة الرسمية للأساتذة بالجزائر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 سلسلة قواعد قرانية

اذهب الى الأسفل 
5 مشترك
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأحد نوفمبر 28, 2010 5:09 pm

لمحات جلية, ووقفات ندية, مع مقاطع من
أيات من كتاب الله العزيز, فيها حكم ودرر وعبر,عنونتها بـ "قواعد قرآنية"
نحاول فيها أن نقف على جمل قصيرة التي بثت في ثنايا القرآن, وهي على قصرها
حوت خيراً كثيراً, واشتملت على معانٍ جليلة,تمثل في حقيقتها قاعدة من
القواعد, ومنهجاً ومنهاجاً, سواء في علاقة الإنسان بربه أو مع الخلق أو مع
نفسه.....
د. عمر المقبل

وسأسرد لكم كل يوم قاعدة من القواعد لنطبقها في حياتنا,,,,

القاعدة الأولى: (وقولوا للناس حسنا)

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً
شديدا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن ندًّا وإن وثنا، - جل في
علاه -ما رحم عباده بمثل إنزال القرآن، الذي أنزله تبياناً لكل شيء وهدىً
وموعظةً وذكرى، وجعل لتاليه والعاملين من لدنه خيراً وأجراً، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، كانت حياته وأخلاقه للقرآن تفسيراً وشرحاً، صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديهم، واستن بسنتهم إلى يوم الدين وسلم
تسليماً كثيراً،
أزكى صلاةٍ مع التسليم دائمةً *** ما إن لها أبداً حدٌ ولا أمدُ
أما بعد:
فهاؤم لمحاتٌ جلية، ووقفاتٌ ندية، مع مقاطع من آيات من كتاب الله العزيز،
فيها حكم وعبر ودرر، عنونتهابـ (قواعد قرآنية)، نحاول فيها ـ إن شاء الله
تعالى ـ أن نقف على جملٍ قصيرة من الجمل التي بُثّت في ثنايا القرآن، وهي
على قصرها، حوت خيراً كثيراً، واشتملت على معانٍ جليلة، تمثل في حقيقتها
قاعدة من القواعد، ومنهجا ومنهاجا، سواءً في علاقة الإنسان مع ربه، أو في
علاقته مع الخلق، أو مع النفس.

إذا فهي قبس وضاء، وبدر منير، وسراج وهاج، وإذا كان النبي صلى الله عليه
وسلم قد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فيقول الجملة
الواحدة من كلمتين أو ثلاث، ثم تجد تحتها من المعاني ما يستغرق العلماء في
شرحها صفحاتٍ كثيرة، فما ظنك بكلام الله جل وعلا الذي يهب الفصاحة والبلاغة
من يشاء؟!

إن من أعظم مزايا هذه القواعد، الأجر المتكرر عند قراءتها وشمولها، وسعة
معانيها، فليست هي خاصة بموضوع محدد كالتوحيد، أو العبادات مثلاً، بل هي
شاملة لهذا ولغيره من الأحوال التي يتقلب فيها العباد، فثمة قواعدُ تعالج
علاقة العبد بربه تعالى، وقواعدُ تصحح مقام العبودية، وسير المؤمن إلى الله
والدار الآخرة، وقواعدُ لترشيد السلوك بين الناس، وأخرى لتقويم وتصحيح ما
يقع من أخطاء في العلاقة الزوجية، إلى غير ذلك من المجالات، بل لا أبالغ
إذا قلتُ ـ وقد تتبعتُ أكثر من مائة قاعدة في كتاب الله ـ: إن القواعد
القرآنية لم تدع مجالاً إلا طرقته ولا موضوعا إلا ذكرته.

أخي المبارك:
يروق للكثيرين استعمال واستخدام ما يعرف بالتوقيعات، لتكون همسة متكررة،
ومعنى متجلٍ يتجدد، وتكون هذه التوقيعات إما بيتاً رائقا من الشعر أو كلمةً
عذبة لأحد الحكماء، أو قطعةً مذهبةً من حديث شريف، وهذا كله حسن لا إشكال
فيه، لكن ليتنا نفعّل ونوظف معاني القرآن من خلال تكرار القواعد القرآنية
التي حفل بها كتابُ الله تعالى، فإن ذلك له فوائد كثيرة، منها:
1 ـ ربط الناس بكتاب ربهم تعالى في جميع شؤونهم وأحوالهم، ونيلهم الأجر عند كل قراءة أو كتابة لآية.
2 ـ ليرسخ في قلوب الناس أن القرآن فيه علاج لجميع مشاكلهم مهما تنوعت،
تارةً بالتنصيص عليها، وتارة بالإشارة إليها من خلال هذه القواعد.
3 ـ أن تفعيل هذه القواعد القرآنية سيكون بديلاً عن كثير من الغث الذي ملئت
بها توقيعات بعض الناس سواء في كلماتهم، أو مقالاتهم، أو معرفاتهم على
الشبكة العالمية.

وأول هذه القواعد التي نبتدئ بها، هي قاعدة من القواعد المهمة في باب
التعامل بين الناس، وهي قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}
[البقرة: من الآية83].
إنها قاعدة تكرر ذكرها في القرآن في أكثر من موضع إما صراحة أو ضمنا ً:
فمن المواضع التي توافق هذا اللفظ تقريباً: قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: من الآية53].
وقريب من ذلك أمره سبحانه بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فقال سبحانه:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}
[العنكبوت/46].
أما التي توافقها من جهة المعنى فكثيرة كما سنشير إلى بعضها بعد قليل.
إذا تأمل في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} جاءت في سياق أمر
بني إسرائيل بجملة من الأوامر وهي في سورة مدنية ـ وهي سورة البقرة ـ وقال
قبل ذلك في سورة مكية ـ وهي سورة الإسراء ـ: أمراً عاماً {وقل لعبادي
يقولوا التي هي أحسن}
.. إذاً فنحن أمام أوامر محكمة، ولا يستثنى منها شيء
إلا في حال مجادلة أهل الكتاب ـ كما سبق ـ.

ومن اللطائف مع هذه الآية {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أن هناك قراءة أخرى سبعية لحمزة والكسائي: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حَسَناً}.
قال أهل العلم: (والقول الحسن يشمل: الحسن في هيئته؛ وفي معناه، ففي هيئته:
أن يكون باللطف، واللين، وعدم الغلظة، والشدة، وفي معناه: بأن يكون خيراً؛
لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير؛ وكل قول خير فهو حسن)(1).
وقد أحسن أحمد الكيواني حيث قال:
من يغرس الإحسان يجنِ محبة *** دون المسيء المبعد المصروم
أقل العثار تفز، ولا تحسد، ولا *** تحقد، فليس المرء بالمعصوم


أيها القارئ الموفق:
إننا نحتاج إلى هذه القاعدة بكثرة، خاصةً وأننا ـ في حياتنا ـ نتعامل مع
أصناف مختلفة من البشر، فيهم المسلم وفيهم الكافر، وفيهم الصالح والطالح،
وفيهم الصغير والكبير، بل ونحتاجها للتعامل مع أخص الناس بنا: الوالدان،
والزوج والزوجة والأولاد، بل ونحتاجها للتعامل بها مع من تحت أيدينا من
الخدم ومن في حكمهم.

وأنت ـ أيها المؤمن ـ إذا تأملتَ القرآن، ألفيت أحوالاً نص عليها القرآن كتطبيق عملي لهذه القاعدة، فمثلاً:
1 ـ تأمل قول الله تعالى ـ عن الوالدين ـ: {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ
لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}
[الإسراء: من الآية23] إنه أمرٌ بعدم النهر، وهو
متضمن للأمر بضده، وهو الأمر بالقول الكريم، الذي لا تعنيف فيه، ولا تقريع
ولا توبيخ.

2 ـ وكذلك ـ أيضاً ـ فيما يخص مخاطبة السائل المحتاج: {وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ}
[الضحى:10] بل بعض العلماء يرى عمومها في كل سائل: سواء
كان سائلاً للمال أو للعلم، قال بعض العلماء: "أي: فلا تزجره ولكن تفضل
عليه بشيء أورده بقول جميل"(2).

3 ـ ومن التطبيقات العملية لهذه القاعدة القرآنية، ما أثنى الله به على
عباد الرحمن، بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}
[الفرقان: من الآية63]: يقول ابن جرير ـ رحمه الله ـ في بيان معنى هذه
الآية: "وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم
بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب"(3).
وهم يقولون ذلك "لا عن ضعف ولكن عن ترفع؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن
صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن
المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع"(4).

ومن المؤسف أن يرى الإنسان كثرة الخرق والتجاوز لهذه القاعدة في واقع أمة القرآن، وذلك في أحوال كثيرة منها:
1 ـ أنك ترى من يدعون إلى النصرانية يحرصون على تطبيق هذه القاعدة، من أجل
كسب الناس إلى دينهم المنسوخ بالإسلام، أفليس أهلُ الإسلام أحق بتطبيق هذه
القاعدة، من أجل كسب الخلق إلى هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله لعباده.
2 ـ في التعامل مع الوالدين.
3 ـ في تعامل الزوج مع زوجه.
4 ـ مع الأولاد.
5 ـ مع العمالة والخدم.

وقد نبهت آية الإسراء إلى خطورة ترك تطبيق هذه القاعدة، فقال سبحانه:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: من الآية53]!
وعلى من ابتلي بسماع ما يكره أن يحاول أن يحتمل أذى من سمع، ويعفو ويصفح،
وأن يقول خيراً، وأن يقابل السفه بالحلم، والقولَ البذيء بالحسن، وإلا فإن
السفه والرد بالقول الردئ يحسنه كل أحد.

وهذه واقعة لأحد دهاقنة العلم وهو الإمام مالك رحمه الله مع الشاعر الذي قضى عليه بحكم لم يرق له، فتهدده بالهجاء، فقال له مالك:
(إنما وصفتَ نفسك بالسفه والدناءة، وهما اللذان لا يعجز عنهما أي أحد، فإن
استطعت أن تأتي الذي تنقطع دونه الرقاب فافعل: الكرم والمروءة!(5)).

وما أجمل قول المتنبي:
وكل امرئ يولي الجميل محبب *** وكل مكان ينبت العز طيب
______________
(1) ينظر: تفسير العثيمين 3/196.
(2) تفسير الألوسي 23/15.
(3) تفسير الطبري 19/295.
(4) ينظر: الظلال 5/330.
(5) انظر: ترتيب المدارك 1/59.


عدل سابقا من قبل الحب في الله في الأحد ديسمبر 26, 2010 3:43 pm عدل 7 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الاستاذ ابراهيم
.
.
الاستاذ ابراهيم


ذكر
عدد المساهمات : 3855
تاريخ الميلاد : 16/11/1967
العمر : 57

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 2:18 am

بارك الله فيك على الموضوع القيم في انتظار جديدك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالإثنين نوفمبر 29, 2010 9:54 am

القاعدة الثانية:
(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...)
د.عمر بن عبد الله المقبل | 20/4/1430
الحمد لله،وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فحديثنا في هذه الحلقة مع قاعدة عظيمة لها أثرٌ بالغ في حياة الذين وعوها وعقلوها، واهتدوا بهداها، قاعدة لها صلة بأحد أصول الإيمان العظيمة: ألا وهو: الإيمان بالقضاء والقدر، وتلكم القاعدة هي قوله سبحانه وتعالى ـ في سورة البقرة في سياق الكلام على فرض الجهاد في سبيل الله ـ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]}.

وهذا الخير المجمل، فسره قوله تعالى في سورة النساء ـ في سياق الحديث عن مفارقة النساء ـ: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
فقوله (خيراً كثيراً) مفسر وموضح للخير الذي ذكر في آية البقرة، وهي الآية الأولى التي استفتحنا بهذا هذا الحديث.

ومعنى القاعدة بإيجاز:
أن الإنسان قد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة، التي تكرهها نفسه، فربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية، والفاجعة المهلكة، لآماله وحياته، فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة، وعطية في رداء بلية، وفوائد لأقوام ظنوها مصائب، وكم أتى نفع الإنسان من حيث لا يحتسب!.
والعكس صحيح: فكم من إنسان سعى في شيءٍ ظاهره خيرٌ، وأهطع إليه، واستمات في سبيل الحصول عليه، وبذل الغالي والنفيس من أجل الوصول إليه، فإذا بالأمر يأتي على خلاف ما يريد،
و هذا هو معنى القاعدة القرآنية التي تضمنتها هذه الآية باختصار.

أيها القارئ الموفق:
ما إن تمعن بناظريك، وترجع البصر كرتين، متأملاً الآيتين الكريمتين الأولى والثانية، إلا وتجد الآية الأولى ـ التي تحدثت عن فرض الجهاد ـ تتحدث عن ألم بدني وجسميًّ قد يلحق المجاهدين في سبيل الله، كما هو الغالب، وإذا تأملت الآية الثانية ـ آية مفارقة النساء ـ ألفيتها تتحدث عن ألم نفسي يلحق أحد الزوجين بسب فراقه لزوجه!
وإذا بصرت في آية الجهاد وجدتها تتحدث عن عبادة من العبادات، وإذا تمعنت آية النساء، وجدتها تتحدث عن علاقات دنيوية.
إذن فنحن أمام قاعدة تناولت أحوالاً شتى: دينية ودنيوية، بدنية ونفسية، وهي أحوال لا يكاد ينفك عنها أحد في هذه الحياة التي:

جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأقذاء والأقذار
وقول الله أبلغ وأوجز وأعجز، وأبهى مطلعا وأحكم مقطعا: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
إذا تبين هذا ـ أيها المؤمن بكتاب ربه ـ فأدرك أن إعمال هذه القاعدة القرآنية: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} من أعظم ما يملأ القلب طمأنينة وراحةً، ومن أهم أسباب دفع القلق الذي عصف بحياة كثير من الناس، بسبب موقف من المواقف، أو بسبب قدر من الأقدار المؤلمة ـ في الظاهر ـ جرى عليه في يوم من الأيام!
ولو قلبنا قصص القرآن، وصفحات التاريخ، أو نظرنا في الواقع لوجدنا من ذلك عبراً وشواهدَ كثيرة، لعلنا نذكر ببعض منها، عسى أن يكون في ذلك سلوةً لكل محزون، وعزاء لكل مهموم:

1 ـ قصة إلقاء أم موسى لولده في البحر!
فأنت ـ إذا تأملتَ ـ وجدتَ أنه لا أكره لأم موسى من وقوع ابنها بيد آل فرعون، ومع ذلك ظهرت عواقبه الحميدة، وآثاره الطيبة في مستقبل الأيام، وصدق ربنا: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

2 ـ وتأمل في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام تجد أن هذه الآية منطبقة تمام الانطباق على ما جرى ليوسف وأبيه يعقوب عليهما الصلاة والسلام.
3 ـ تأمل في قصة الغلام الذي قتله الخضر بأمر الله تعالى، فإنه علل قتله بقوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80، 81]!
توقف ـ أيها المؤمن ويا أيتها المؤمنة عندها قليلاً ـ!

كم من إنسان لم يقدر الله تعالى أن يرزقه بالولد، فضاق ذرعا بذلك، واهتم واغتم وصار ضيقا صدره ـ وهذه طبيعة البشر ـ لكن الذي لا ينبغي أن يحدث هو الحزن الدائم، والشعور بالحرمان الذي يقضي على بقية مشاريعه في الحياة!
وليت من حرم نعمة الولد أن يتأمل هذه الآية لا ليذهب حزنه فحسب، بل ليطمئن قلبه، وينشرح صدره، ويرتاح خاطره، وليته ينظر إلى هذا القدر بعين النعمة،وبصر الرحمة، وأن الله تعالى رُبَما صرف هذه النعمة رحمةً به! وما يدريه؟ لعله إذا رزق بولد صار - هذا الولد - سبباً في شقاء والديه، وتعاستهما، وتنغيص عيشهما! أو تشويه سمعته، حتى لو نطق لكاد أن يقول:؟؟؟

4 ـ وفي السنة النبوية نجد هذا لما ماتت زوج أم سلمة: أبو سلمة رضي الله عنهم جميعاً، تقول أم سلمة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها. إلا أخلف الله له خيرا منها».
قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبى سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه!

فتأمل هذا الشعور الذي انتاب أم سلمة ـ وهو بلا شك ينتاب بعض النساء اللاتي يبتلين بفقد أزواجهن ويتعرض لهن الخُطاب ـ ولسان حالهن: ومن خير من أبي فلان؟! فلما فعلتْ أم سلمة ما أمرها الشرع به من الصبر والاسترجاع وقول المأثور، أعقبها الله خيراً لم تكن تحلمُ به، ولا يجول في خلدها.
وهكذا المؤمنة.. يجب عليها أن لا تختصر سعادتها، أو تحصرها في باب واحد من أبواب الحياة، نعم.. الحزن العارض شيء لم يسلم منه ولا الأنبياء والمرسلون! بل المراد أن لا نحصر الحياة أو السعادة في شيء واحد، أو رجل، أو امرأة، أو شيخٍ!

5 ـ وفي الواقع قصص كثيرة جداً، أذكر منها ما ذكره الطنطاوي رحمه الله عن صاحب له: أن رجلاً قدم إلى المطار، وكان حريصا على رحلته، وهو مجهد بعض الشيء، فأخذته نومةٌ ترتب عليها أن أقلعت الطائرة، وفيها ركاب كثيرون يزيدون على ثلاث مئة راكب، فلما أفاق إذا بالطائرة قد أقلعت قبل قليل، وفاتته الرحلة، فضاق صدره، وندم ندماً شديداً، ولم تمض دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى أعلن عن سقوط الطائرة، واحتراق من فيها بالكامل!
والسؤال أخي: ألم يكن فوات الرحلة خيراً لهذاالرجل؟! ولكن أين المعتبرون والمتعظون؟

6- وهذا طالب ذهب للدراسة في بلد آخر، وفي أيام الاختبارات ذهب لجزيرة مجاورة للمذاكرة والدراسة، وهو سائر في الجزيرة قطف بعض الورود، فرآه رجال الأمن فحبسوه يوماً وليلة عقاباً لصنيعه مع النبات، وهو يطلب منهم بإلحاح إخراجه ليختبر غدا، وهم يرفضون، ثم ماذا حصل!؟ لقد غرقت السفينة التي كانت تقل الركاب من الجزيرة ذلك اليوم، غرقت بمن فيها، ونجا هو بإذن الواحد الأحد!
والخلاصة ـ أيها المستمعون الكرام ـ:
أن المؤمن عليه:
nge]e=25]أن يسعى إلى الخير جهده *** وليس عليه أن تتم المقاصد[/size]
وأن يتوكل على الله، ويبذل ما يستطيع من الأسباب المشروعة، فإذا وقع شيءٌ على خلاف ما يحب،فليتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]}.
وليتذكر أن (من لطف الله بعباده أنه يقدر عليهم أنواع المصائب، وضروب المحن، و الابتلاء بالأمر والنهي الشاق رحمة بهم، ولطفاً، وسوقا إلى كمالهم، وكمال نعيمهم)(1).
ومن ألطاف الله العظيمة أنه لم يجعل حياة الناس وسعادتهم مرتبطة ارتباطاً تاماً إلا به سبحانه وتعالى، وبقية الأشياء يمكن تعويضها، أو تعويض بعضها:
=orange]]من كل شيء إذا ضيعته عوضٌ *** وما من الله إن ضيعتهُ عوضُ[/size]
وإلى لقاء قريب في الحلقة القادمة بإذن الله..
______________
(1) تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي: (74)


عدل سابقا من قبل الحب في الله في الأحد ديسمبر 26, 2010 3:50 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 01, 2010 11:13 am

الحمد لله، وبعد:
فهذه قاعدة أخرى في مسرد موضوعنا الممتد: (قواعد قرآنية)،

وهي قاعدة سامقة الفروع، باسقة الجذوع؛ لأنها من القواعد السلوكية التي تدل على عظمة هذا الدين، وشموله، وروعة مبادئه، إنها القاعدة التي دلّ عليها قوله تعالى:
(ولا تنسوا الفضل بينكم)
وهذه الآية الكريمة جاءت في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة، يقول ربنا تبارك وتعالى:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

والمعنى: أن الله تعالى يأمر من جمعتهم علاقة من أقدس العلاقات الإنسانية ـ وهي علاقة الزواج ـ أن لا ينسوا ـ في غمرة التأثر بهذا الفراق والانفصال ـ ما بينهم من سابق العشرة، والمودة والرحمة، والمعاملة.

وهذه القاعدة جاءت بعد ذلك التوجيه بالعفو: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} كلُّ ذلك لزيادة الترغيب في العفو والتفضل الدنيوي.
وتأمل في التأكيد على عدم النسيان، والمراد به الإهمال وقلة الاعتناء، وليس المراد النهي عن النسيان بمعناه المعروف؛ فإن هذا ليس بوسع الإنسان.
وفي قوله: {إن الله بما تعملون بصير} تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل، وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازي عليه(1).

إن العلاقة الزوجية ـ في الأعم الأغلب ـ لا تخلو من جوانب مشرقة، ومن وقفات وفاء من الزوجين لبعضهما، فإذا قُدّر وآل هذا العقد إلى حل عقدته بالطلاق، فإن هذا لا يعني نسيان ما كان بين الزوجين من مواقف الفضل والوفاء، ولئن تفارقت الأبدان، فإن الجانب الخلقي يبقى ولا يذهبه مثل هذه الأحوال العارضة.
وتأمل في أثر العفو، فإنه: يقرّب إليك البعيد، ويصيّر العدو لك صديقاً.
بل وتذكر ـ يا من تعفو ـ أنه يوشك أن تقترف ذنباً، فيُعفى عنك إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق.

ولله ! ما أعظم هذه القاعدة لو تم تطبيقها بين الأزواج، وبين كل من تجمعنا بهم رابطة أو علاقة من العلاقات!

لقد ضرب بعض الأزواج ـ من الجنسين ـ أروع الأمثلة في الوفاء، وحفظ العشرة، سواء لمن حصل بينهم وبين أزواجهم فراق بالطلاق، أو بالوفاة، أذكر نموذجاً وقفتُ عليه، ربما يكون نادراً، وهو لشخص أعرفه، طلق زوجته ـ التي له منها أولاد ـ فما كان منه إلا أسكنها في الدور العلوي مع أولاده الذين بقوا عندها، وسكن هو في الدور الأرضي، وصار هو الذي يسدد فواتير الاتصالات والكهرباء ويقوم تفضلاً بالنفقة على مطلقته، حتى إن كثيراً ممن حوله من سكان الحي لا يدرون أنه مطلق!

وإني لأحسبه ممن بلغ الغاية في امتثال هذا التوجيه الرباني: {ولا تنسوا الفضل بينكم}، نعم هذا مثال عزيز؛ لكني أذكره لأبين أن في الناس خيراً، وكما قال الحطيئة:
rown]=25]من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس[/size]
or=blue]]أيها القراء الكرام:[/size]
دعونا نتوقف قليلاً عند موقف عملي ممن كان خلقَه القرآن صلى الله عليه وسلم ، لنرى كيف كان يتمثل ويمتثل القرآن عملياً في حياته: وذلك أن أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف، بعد أن بقي شهراً يدعو أهلها، ولم يجد منهم إلا الأذى، رجع إلى مكة، فدخل في جوار المطعم بن عدي، فأمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند الركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشاً فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك!
ومات المطعم مشركاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينس له ذلك الفضل، فأراد أن يعبر عن امتنانه لقبول المطعم بن عدي أن يكون في جواره في وقت كانت مكة كلها إلا نفراً يسيراً ضد النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انتهت غزوة بدر ـ كما في البخاري ـ: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"(2).

والمعنى: لو طلب مني تركهم وإطلاقهم من الأسر بغير فداء لفعلت؛ ذلك مكافأة له على فضله السابق في قبول الجوار، فصلوات الله وسلامه على معلم الناس الخير.

وإن في حياتنا صنوفاً من العلاقات ـ سوى علاقة الزواج ـ:

إما علاقة قرابة
أو مصاهرة
أو علاقة عمل
أو صداقة
أو يد فضل
فما أحرانا أن نطبق هذه القاعدة في حياتنا؛
ليبقى الود نهرًا مطردًا،
ولتحفظ الحقوق،
وتتصافى القلوب كبياض البدر بل أبهى،
وكصفاء الشهد بل أنقى،
وكرونق الزهر بل أعطر و أزكى؛
وإلا فإن مجانبة تطبيق هذه القاعدة الأخلاقية العظيمة، يعني مزيداً من التفكك والتباعد والشقاق، ووأداً لبعض الأخلاق الشريفة.
ومن العلاقات التي لا يكاد ينفك عنها أحدنا: علاقة العمل: سواء كان حكومياً أو خاصاً، أو تجارةً، فقد تجمعنا بأحد من الناس علاقة عمل، وقد تقتضي الظروف أن يحصل الاستغناء عن أحد الموظفين، أو انتقال أحد الأطراف إلى مكان عمل آخر برغبته واختياره، وهذا موضع من مواضع هذه القاعدة: فلا ينبغي أن ينسى الفضل بين الطرفين، فكم هو جميل أن يبادر أحد الطرفين إلى إشعار الطرف الآخر، أنه وإن تفرقنا ـ بعد مدة من التعاون ـ فإن ظرف الانتقال لا يمكن أن ينسينا ما كان بيننا من ود واحترام، وصفاء ووئام، وتعاون على مصالح مشتركة، ولذا فإنك تشكر أولئك الأفراد، وتلك المؤسسات التي تعبر عن هذه القاعدة عملياً بحفل تكريمي أو توديعي لذلك الطرف، فإن هذا من الذكريات الجميلة التي لا ينساها المحتفى به
وإذا أردتَ أن تعرف موقع وأثر مثل هذه المواقف الجميلة، فانظر إلى الأثر النفسي السلبي الذي يتركه عدم المبالاة بمن بذلوا وخدموا في مؤسساتهم الحكومية أو الخاصة لعدة سنوات، فلا يصلهم ولا خطاب شكر!.
ـ ومن ميادين تطبيق هذه القاعدة:
الوفاء للمعلمين، وحفظ أثرهم الحسن في نفس المتعلم.

أعرف معلماً(3) من رواد التعليم في إحدى مناطق بلادنا من ضرب مثالاً للوفاء، إذ لم يقتصر وفاؤه لأستاذته الذين درسوه، بل امتد لأبنائهم حينما مات أستاذته ـ رحمهم الله ـ ويزداد عجبك حين تعلم أنه يتواصل معهم وهم خارج المملكة سواء في مصر أو الشام

فلله در هذا الرجل، وأكثر في الأمة من أمثاله.
ورحم الله الإمام الشافعي يوم قال: الحر من حفظ وداد لحظة، ومن أفاده لفظة.

وفي واقعنا مواضع كثيرة لتفعيل هذه القاعدة القرآنية الكريمة {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}:
فللجيران الذين افترقوا منها نصيب
ولجماعة المسجد منها حظ،
بل حتى العامل والخادم الذي أحسن الخدمة
ولهذه القاعدة حضورها القوي في المعاملة، حتى قال بعض أهل العلم: "من بركة الرزق: أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}[البقرة:237],
بالتيسير على الموسرين،
وإنظار المعسرين،
والمحاباة عند البيع والشراء، بما تيسر من قليل أو كثير،
فبذلك ينال العبد خيراً كثيراً"(4).
إن الوفاء على الكرام فريضة *** واللؤم مقرون بذي النسيان
وترى الكريم لمن يعاشر حافظا *** وترى اللئيم مضيع الإخوان
نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا هو،وأن يعيذنا من سيئها لا يعيذ منها إلا هو سبحانه.
سلسلة قواعد قرانية 55470
(1) ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور بتصرف.
(2) صحيح البخاري، رقم (3139).
(3) هو الأستاذ عبدالعزيز بن إبراهيم الخريف من وجهاء حريملاء.
(4) بهجة قلوب الأبرار: (37).



عدل سابقا من قبل الحب في الله في السبت ديسمبر 25, 2010 6:12 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأحد ديسمبر 05, 2010 11:45 am


الحمد لله، وبعد:

فهذه مشكاة أخرى من موضوعنا الموسوم بـ: (قواعد قرآنية
، نقف فيها مع قاعدة من قواعد التعامل مع النفس، ووسيلة من وسائل علاجها لتنعم بالأنس، وهي مع هاتيك سلّمٌ لتترقى في مراقي التزكية
فإن الله تعالى قد أقسم أحد عشر قسماً في سورة الشمس على هذا المعنى العظيم، فقال: "قد أفلح من زكاها"، تلكم القاعدة هي قول الله تعالى:
{بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}!
والمعنى: أن الإنسان وإن حاول أن يجادل أو يماري عن أفعاله و أقواله التي يعلم من نفسه بطلانها أو خطأها، واعتذر عن أخطاء نفسه باعتذارات؛
فهو يعرف تماماً ما قاله وما فعله، ولو حاول أن يستر نفسه أمام الناس، أو يلقي الاعتذارات،
فلا أحد أبصر ولا أعرف بما في نفسه من نفسه.
وتأمل ـ أيها المبارك ـ كيف جاء التعبير بقوله: "بصيرة" دون غيرها من الألفاظ؛
لأن البصيرة متضمنة معنى الوضوح والحجة، كما يقال للإنسان: أنت حجة على نفسك! والله أعلم
إن لهذه القاعدة القرآنية مجالات كثيرة في واقعنا العام والخاص، فلعنا نقف مع شيء من هذه المجالات؛ علّنا أن نفيد منها في تقويم أخطائنا، وتصحيح ما ندّ من سلوكنا، و ما كَبَتْ به أقدامنا، أو اقترفته سواعدنا، فمن ذلك:
1 ـ في طريقة تعامل بعض من الناس مع النصوص الشرعية
فلربما بلغ بعضَ الناس نصٌ واضح محكمٌ، لم يختلف العلماء في دلالته على إيجاب أو تحريم، أو تكون نفسه اطمأنت إلى حكمٍ ما، ومع هذا تجد البعض يقع في نفسه حرجٌ! ويحاول أن يجد مدفعاً لهذا النص أو ذاك لأنه لم يوافق هواه!


يقول ابن القيم رحمه الله: "فسبحان الله! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد؟

وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها؟ " اهـ(1).

ولا ينفع الإنسان أن يحاول دفع النصوص بالصدر فالإنسان على نفسه بصيرة، وشأن المؤمن أن يكون كما قال ربنا تعالى:

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]
يقول ابن الجوزي، في كتابه الماتع الذائع الرائع (صيد الخاطر) يقول رحمه الله ـ وهو يحكي مشاعر إنسان يعيش هذه الحال مع النصوص الشرعية ـ

"قدرتُ مرة على لذة ظاهرها التحريم، وتحتمل الإباحة، إذ الأمر فيها متردد، فجاهدت النفس فقالت: أنت ما تقدر فلهذا تترك! فقارِبِ المقدورَ عليه، فإذا تمكنتَ فتركتَ، كنت تاركاً حقيقة! ففعلتُ وتركتُ، ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه نفسي الجواز ـ و إن كان الأمر يحتمل ـ فلما وافقتها أثّر ذلك ظلمه في قلبي؛ لخوفي أن يكون الأمر محرماً، فرأيت أنها تارةً تقوى عليّ بالترخص والتأويل، وتارةً أقوى عليها بالمجاهدة والامتناع، فإذا ترخصتُ لم آمن أن يكون ذلك الأمر محظوراً، ثم أرى عاجلاً تأثير ذلك الفعل في القلب، فلما لم آمن عليها بالتأويل،... إلى أن قال رحمه الله: فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن، وترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملاً ومؤدياً إلى ما لا يجوز "(2) انتهى كلامه رحمه الله.

2 ـ ومن مجالات تفعيل هذه القاعدة ـ في مجال التعامل مع النفس ـ:
أ ـ أن مِنَ الناس مَنْ شُغف ـ عياذاً بالله ـ بتتبع أخطاء الناس وعيوبهم، مع غفلة عن عيوب نفسه،
كما قال قتادة: ـ في تفسيره لهذه الآية ـ: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} قال: إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم، غافلاً عن ذنوبه(3)، وهذا ـ بلا ريب ـ من علامات الخذلان
كما قال بكر بن عبدالله المزني: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس، ناسيا لعيبه، فاعلموا أنه قد مُكِرَ بِهِ.
ويقول الشافعي:: بلغني أن عبدالملك بن مروان قال للحجاج بن يوسف: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبىء منها شيئاً(4)

ولهذا يقول أحد السلف: أنفع الصدق أن تقر لله بعيوب نفسك (5).
ب ـ ومن مواضع تطبيق هذه القاعدة:
أن ترى بعض الناس يجادل عن نفسه في بعض المواضع ـ التي تبين فيها خطؤه ـ بما يعلم في قرارة نفسه أنه غير مصيب،
كما يقول ابن تيمية: في تعليقه على هذه الآية: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها، وهو يبصرها بخلاف ذلك(6).
ج ـ ومن دلالات هذه القاعدة الشريفة
أن يسعى المرء إلى التفتيش عن عيوبه، وأن يسعى في التخلص منها قدر الطاقة، فإن هذا نوع من جهاد النفس المحمود، وأن لا يركن الإنسان إلى ما فيه من عيوب أو أخطاء، بحجة أنه نشأ على هذا الخلق أو ذاك، أو اعتاد عليه، فإنه لا أحد من الناس لا أعلم منك بنفسك وعيوبها وأخطائها وذنوبها، وما تسره من أخلاق، أو تضمره من خفايا النوايا.
وإليك هذا النموذج المشرق من حياة العلامة ابن حزم:، حيث يقول ـ في تقرير هذا المعنى ـ

"كانت فيَّ عيوب، فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين ـ في الأخلاق وفي آداب النفس ـ أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها، ليتعظ بذلك متعظ يوماً إن شاء الله.


ثم ساق الإمام ابن حزم جملة من العيوب التي كانت فيه، وكيف حاول التغلب عليها، ومقدار ما نجح فيه نجاحاً تاماً، وما نجح فيه نجاحاً نسبياً(7) اهـ

د ـ ومن مواطن استفادة المؤمن من هذه القاعدة
أن الإنسان ما دام يدرك أنه أعلم بنفسه من غيره، وجب عليه أن يتفطن أن الناس قد يمدحونه في يومٍ من الأيام، بل قد يُفرطون في ذلك، وفي المقابل قد يسمع يوماً من الأيام من يضع من قدره بمنسم الافتراء، أو يخفض من شأنه، وربما ضُرِّس بأنياب الظلم والبغي
، فمن عرف نفسه: لم يغتر بمدحه بما ليس فيه، ولم يتضرر بقدحه بما ليس فيه
بل يفيد من ذلك بتصحيح ما فيه من أخطاء وزلات، ويسعى لتكميل نفسه بأنواع الكمالات البشرية قدر المستطاع.
وخاتمة هذه المجالات التي تناسب حديثنا هنا ـ ولعله من أشرفها ـ:
أن من أكبر ثمرات البصيرة بالنفس، أن يوفق الإنسان إلى الاعتراف بالذنب، والخطأ، وهذا مقام الأنبياء والصديقين والصالحين، وتأمل في قول أبوينا ـ حين أكلا من الشجرة ـ: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]}
،ثم من بعدهما نوح، وموسى،في سلسلة متتابعة كان من آخرها: ما أثبته القرآن عن أولئك المنافقين الذين اعترفوا بذنوبهم فسلموا وتيب عليهم، قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]
"فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين" (
أسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يقينا شحها

ومع توديعة الختام أهمس:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه *** عنك، فإن جحودَ الذنب ذنبانِ
__________________
(1) الرسالة التبوكية.
(2) صيد الخاطر: (152).
(3) تفسير ابن جرير.
(4) حلية الأولياء (9/146).
(5) حلية الأولياء (9/282).
(6) مجموع الفتاوى 14/445.
(7) رسائل ابن حزم (1 / 354).
( الصارم المسلول - (1 / 362).




عدل سابقا من قبل الحب في الله في السبت ديسمبر 25, 2010 7:06 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 08, 2010 11:24 am

القاعدة الخامسة:

(وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى)

د.عمر بن عبد الله المقبل | 21/5/1430

الحمد لله، وبعد:
فهذا مَرسى آخر على جُودِيّ موضوعنا الأغر: (قواعد قرآنية)،
نقف فيه مع قاعدة من قواعد التعامل مع غيرنا، ومن القواعد التي تعالج شيئاً من الأخلاق الرذيلة عند بعض الناس، تلكم القاعدة هي قوله تعالى:
{وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}.

وهذه الآية الكريمة، وضاءة المعنى، بديعة السبك والحبك، جاءت في سياق قصة موسى مع فرعون ـ الذي قضى حياته افتراء على الله ـ وسحرته الذين هداهم الله، يقول سبحانه وتعالى عن فرعون: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 56 - 62].

والافتراء يطلق على معانٍ منها: الكذب، والشرك، والظلم، وقد جاء القرآن بهذه المعاني الثلاث، وكلها تدور على الفساد والإفساد(1).
قال ابن القيم: مؤكداً اطراد هذه القاعدة: (وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيب أهل الافتراء ولا يهديهم وأنه يستحتهم بعذابه أي يستأصلهم)(2) اهـ.

وإنك ـ أخي المتدبر ـ إذا تأملت هذه القاعدة وجدت في الواقع ـ وللأسف ـ من له منها نصيب وافر، وحظ حاضر سافر، ومن ذلك:
1 ـ الكذب والافتراء على الله،
إما بالقول عليه بغير علم بأي صورة من الصور، استمع لقول ربنا تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93]}.
وقد دلّ القرآن على أن القول على الله بغير علم هو أعظم المحرمات على الإطلاق! قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، وأنت إذا تأملت في هذا الأمر: وجدت أن المشرك إنما أشرك لأنه قال على الله بغير علم!
ومثله الذي يحلل الحرام أو يحرم الحلال، كما حكاه الله تعالى عن بعض أحبار بني إسرائيل.

وكذا الذين يفتون بغير علم، هم من جملة المفترين على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
وكلُّ من تكلم في الشرع بغير علم فهو من المفترين على الله: سواء في باب الأسماء والصفات، أو في أبواب الحلال والحرام، أو في غيرها من أبواب الدين.

ولأجل هذا كان كثير من السلف يتورع أن يجزم بأن ما يفتي به هو حكم الله إذا كانت المسألة لا نص فيها، ولا إجماع، قال بعض السلف: "ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا"(3).
"ولهذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ا حكماً حكم به، فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر! فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

وقال ابن وهب: سمعت مالكاً: يقول: "لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحداً اقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنا فينبغي هذا ولا نرى هذا"(4).
فعلى من لم يكن عنده علم فيما يتكلم به أن يمسك لسانه، ويقبض مِقوَله، وعلى من تصدر لإفتاء الناس أن يتمثل هدي السلف في هذا الباب، فإنه خير مقالاً وأحسن تأويلاً.

2 ـ ومن صور تطبيقات هذه القاعدة القرآنية:
ما يفعله بعض الوضاعين للحديث ـ في قديم الزمان وحديثه ـ الذين يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويفترون عليه: إما لغرض ـ هو بزعمهم ـ حسنٌ كالترغيب والترهيب، أو لأغراض سياسية، أو مذهبية، أو تجارية، كما وقع ذلك وللأسف منذ أزمنة متطاولة وأيام غابرة!

وليعلم كل من يضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم أنه من جملة المفترين، فلن يفلح سعيه، بل هو خاسر وخائب كما قال ربنا: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}، ولا ينفعه ما يظنه قصداً حسناً ـ كما زعم بعض الوضاعين ـ فإن مقام الشريعة عظيم الشَّأو، وجنابها مصون ومحترم، وقد أكمل الله الدين، وأتم النعمة، فلا يحتاج إلى حديث موضوع ومختلق مفترى، يُضلُّ ولا يكاد يبين، وليست شريعةٌ تلك التي تبنى على الكذب، وعلى منْ؟ على رسولها صلى الله عليه وسلم؟

ومن المؤسف المقلق أن يُرى لسوق الأحاديث الضعيفة والمكذوبة رواجاً في هذا العصر بواسطة الإنِّترنت، أو رسائل الجوال؛ فليتق العبدُ ربَّه، ولا ينشرن شيئاً ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتثبت من صحته عنه.

3 ـ ومن صور تطبيقات هذه القاعدة القرآنية الكريمة المشاهدة في الواقع:
ما يقع ـ وللأسف الشديد ـ من ظلم وبغي بين بعض الناس، وهذا له أسبابه الكثيرة، لعل من أبرزها:
الحسد ـ عياذاً بالله منه ـ والطمع في شيء من لعاعة الدنيا، أو لغير ذلك من الأسباب، ويَعْظُمُ الخطب حينما يُلبِّسُ بعضُ الناس صنيعه لبوسَ الدين؛ ليبرر بذلك فعلته في الوشاية بفلان، والتحذير من فلان بغياً وعدواناً.
ولقد وقفتُ على كثير من القصص في هذا الباب، منها القديم ومنها المعاصر، اعترف أصحابها بها، وهي قصص تقطع الكبد ألماً، وتفت الفؤاد فتًا، بسبب ما ذاقوه من عاقبة افترائهم وظلمهم لغيرهم، وكانت عاقبة كذبهم خسرا.

وكما قال الكيلاني:
الصدق من كرم الطباع وطالما *** جاء الكذوب بخجلة ووجوم
و أكتفي من ذلك بهذين الموقفين؛ إذ في تضاعيف ذكرهما عظةٌ وعبرة:

1 ـ تحدثتْ إحداهن ـ وهي أستاذة جامعية ومطلقة مرتين ـ فقالت: حدثت قصتي مع الظلم قبل سبع سنوات، فبعد طلاقي الثاني قررتُ الزواج بأحد أقاربي الذي كان ينعم بحياة هادئة مع زوجته وأولاده الخمسة، حيث اتفقت مع ابن خالتي ـ الذي كان يحب زوجة هذا الرجل ـ اتفقنا على اتهامها بخيانة زوجها! وبدأنا في إطلاق الشائعات بين الأقارب، ومع مرور الوقت نجحنا، حيث تدهورت حياة الزوجين وانتهت بالطلاق!

وبعد مضي سنة تزوجت المرأةُ ـ التي طلقت بسبب الشائعات ـ برجل آخر ذي منصب، أما الرجل فتزوج امرأة غيري، وبالتالي لم أحصل مع ابن خالتي على هدفنا المنشود، ولكنا حصلنا على نتيجة ظلمنا حيث أصبت بسرطان الدم!
أما ابن خالتي فقد مات حرقاً مع الشاهد الثاني، بسبب التماس كهربائي في الشقة التي كان يقيم فيها، وذلك بعد ثلاث سنوات من القضية.

2 ـ أما القصة الأخرى: فيرويها شخص اسمه (حمد): عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية حدثت مشاجرة بيني وبين أحد الطلاب المتفوقين، فقررت ـ بعد تلك المشاجرة ـ أن أدمر مستقبله، فحضرت ذات يوم مبكراً إلى المدرسة، ومعي مجموعة من سجائر الحشيش ـ التي كنا نتعاطاها ـ ووضعتها في حقيبة ذلك الطالب، ثم طلبت من احد أصدقائي إبلاغ الشرطة بأن في المدرسة مروجَ مخدرات، وبالفعل تمت الخطة بنجاح، وكنا نحن الشهود الذين نستخدم المخدرات.

يقول أحمد هذا: ومنذ ذلك اليوم وأنا أعاني نتيجة الظلم الذي صنعته بيدي، فقبل سنتين تعرضت لحادث سيارة فقدت بسببه يدي اليمُنى، وقد ذهبت للطالب في منزله أطلب منه السماح، ولكنه رفض لأنني تسببت في تشويه سمعته بين أقاربه حتى صار شخصاً منبوذاً من الجميع، وأخبرني بأنه يدعو عليّ كل ليلة؛ لأنه خسر كل شيء بسبب تلك الفضيحة، ولأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب فقد استجاب الله دعوته، فها أنا بالإضافة إلى يدي المفقودة أصبحت مقعداً على كرسي متحرك نتيجة حادث آخر! ومع أني أعيش حياة تعيسة، فإني أخاف من الموت لأني أخشى عقوبة رب العباد(5).

ومن صور تطبيقات هذه القاعدة في عصرنا:
ما يقع من بعض الكُتاب والصحفيين، الذين يعمي بعضَهم الحرصُ على السبق الصحفي عن تحري الحقيقة، والتثبت من الخبر الذي يورده، وقد يكون متعلقاً بأمور حساسة تطال العرض والشرف، وليتدبروا جيداًً، هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}، والقاعدة المحكمة في باب الأخبار: {فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة}.
و مع الختام أهمس بقول القائل:
الصدق في أقوالنا أقوى لنا *** والكذب في أفعالنا أفعى لنا

_________________
(1) مفردات الراغب: (634).
(2) الصواعق المرسلة - (4 / 1212).
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (1 / 39).
(4) المصدر السابق.
(5) نشرت هذه القصص في مقال للكاتب محمد بن عبدالله المنصور، بعنوان: (رسالة بلا عنوان!) في جريدة اليوم الإلكترونية، عدد (11854)، الأثنين 26/10/1426هـ، الموافق: 28/11/2005 م


عدل سابقا من قبل الحب في الله في السبت ديسمبر 25, 2010 6:58 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالخميس ديسمبر 09, 2010 10:58 am


القاعدة السادسة: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)

د.عمر بن عبد الله المقبل | 29/5/1430

الحمد لله، وبعد:
فهذه نسمة عنبرية، وزهرة عبهرية مع موضوعنا المرقوم بـ: (قواعد قرآنية)، نقف فيها مع قاعدة من القواعد المهمة في بناء المجتمع، وربط أواصره، وإصلاحه، وتدارك أسباب تفككه، إنها قول ربنا العليم الخبير:

{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.

وهذه القاعدة القرآنية الكريمة، وردت مشرقة المعنى، مسفرة المبنى، في سياق الحديث عما قد يقع بين الأزواج من أحوال ربما تؤدي إلى الاختلاف والتفرق، وأن الصلح بينهما على أي شيء يرضيانه خير من تفرقهما، يقول سبحانه: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

ويمكننا القول: إن جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الإصلاح بين الناس هي من التفسير العملي لهذه القاعدة القرآنية المتينة.
ومن المناسبات اللطيفة أن ترد هذه الآية في سورة النساء، وهي نفس السورة التي ورد فيها قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].

يقول ابن عطية: ـ مؤكداً اطراد هذه القاعدة ـ: (وقوله تعالى: {والصلح خير} لفظٌ عام مطلق، يقتضي أن الصلح الحقيقي ـ الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ـ خيرٌ على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة)(1).

ومعنى الآية باختصار (2):
أن المرأة "إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي: تَرّفَعه عنها، وعدمِ رغبتِه فيها وإعراضه عنها، فالأحسن ـ في هذه الحالة ـ أن يصلحا بينهما صلحا، بأن تسمح وتتنازل المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها: إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو القسم بأن تسقط حقها منه، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها، فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها، لا عليها ولا على الزوج، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال، وهي خير من الفرقة، ولهذا قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}".

يقول العلامة السعدي:
"ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى: أن الصلح بين من بينهما حقٌ أو منازعة ـ في جميع الأشياء ـ أنه خيرٌ من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح.
وهو ـ أي الصلح ـ جائزٌ في جميع الأشياء إلا إذا أحل حراماً أو حرم حلالاً، فإنه لا يكون صلحاً، وإنما يكون جوراً.
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير، والخيرُ كلُّ عاقلٍ يطلبه ويرغب فيه، فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه.

وذكر المانع بقوله: {وأحضرت الأنفس الشح} أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعاً، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.

فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن، سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر"(3) انتهى كلامه.

ومن تأمل القرآن، وأجال فيه ناظريه، رأى سعة هذه القاعدة من جهة التطبيق، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره من الإصلاح بين الأزواج، فإننا نجد في القرآن الحث على الإصلاح بين الفئتين المتقاتلتين، ونجده يثني ثناء ظاهراً على الساعين في الإصلاح بين الناس: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

بل تأمل ـ أخي القارئ ـ في افتتاح سورة الأنفال، فإنك مبصرٌ عجباً، فإن الله تعالى افتتح هذه السورة بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [الأنفال:1] فلم يأت الجوابُ عن الأنفال مباشرة، بل جاء الأمر بالتقوى وإصلاحِ ذاتِ البين، وطاعةِ الله ورسوله؛ لأن إغفال هذه الأصول الكبار سببٌ عظيم في شر عريض، ولعل من أسرار إرجاء الجواب عن هذا التساؤل: لبيان أن التقاتل على الدنيا ـ ومنها الأنفال (وهي الغنائم) ـ سببٌ في فسادِ ذات البين، ولهذا جاء الجواب عن سؤال الأنفال بعد أربعين آية من هذا السؤال.
ولأهمية هذا الموضوع ـ أعني الإصلاح ـ: أجازت الشريعة أخذ الزكاة لمن غرم بسبب الإصلاح بين الناس.

إذا تقرر هذا المعنى المتين والشامل لهذه الآية الكريمة (والصلح خير)، فمن المهم ـ حتى نفيد من هذه القاعدة القرآنية ـ أن نسعى لتوسيع مفهومها في حياتنا العملية، وأصدق شاهد على ذلك سيرة نبينا ج الذي طبق هذه القاعدة في حياته، وهل كانت حياته إلا صلاحاً وإصلاحا؟ وكما قال شوقي:
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً *** هي أنت، بل أنت اليدُ البيضاءُ
1 ـ وبخصوص هذا الموضع الذي وردت فيه هذه القاعدة القرآنية العظيمة، طبق النبي ج هذه القاعدة وأجراها حينما كبرت زوجه أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضى الله عنها ،وقع في نفسه أن يفارقها، فكانت تلك المرأة عاقلة رشيدة، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها، وأبقاها على ذلك.

وإذا برحنا مطوفين إلى ميدان سيرته الفسيح صلى الله عليه وسلم فإنا واجدون جملةً من الأمثلة السامقة الرائقة، منها:
2 ـ أنموذج آخر في قصة بريرة ـ وهي أَمَةٌ قد أعتقتها عائشة رضى الله عنها ـ فكرهت أن تبقى مع زوجها، وكان زوجها شديد التعلق بها، حتى قال ابن عباس رضى الله عنه ـ كما في الترمذي(4) ـ وهو يصف حب مغيث لبريرة: وكان يحبها، وكان يمشي في طرق المدينة ـ وهو يبكي ـ واستشفع إليها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: أتأمر؟ قال: لا بل أشفع، قالت: لا أريده!
فانظر كيف حاول صلى الله عليه وسلم أن يكون واسطة خير بين زوجين انفصلا، وشفع لأحد الطرفين لعله يقبل، فلم يشأ أن يجبر؛ لأن من أركان الحياة الزوجية الحب، والرغبة!

3 ـ خرج مرة صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيحين ـ من حديث سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم(5).

وعلى هذه الجادة النبوية سار تلاميذه النجباء من أصحابه الكرام وغيرهم ممن سار على نهجهم، ومن ذلك:
4 ـ خروج ابن عباس رضى الله عنه لمناظرة الخوارج ـ الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضى الله عنه ـ فرجع منهم عدد كبير.
ومن قلّب كتب السير وتنقل بين ردهاتها ألفى نماذج مشرقة لجهود فردية في الإصلاح بين الناس على مستويات شتى، ولعل مما يبشر بخير ما نراه من لجان إصلاح ذات البين، والتي هي في الحقيقة ترجمة عملية لهذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.

فهنيئاً لمن جعله الله من خيار الناس، الساعين في الإصلاح بينهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ثم الصلاة على المختار سيدنا *** وأفضل القول قول هكذا ختما

____________________
(1) المحرر الوجيز ـ موافق للمطبوع - (2/141).
(2) هذا التوضيح مختصر من كلام العلامة السعدي.
(3) تفسير السعدي:
(4) في ح (1156).
(5) صحيح البخاري
: [/size]



عدل سابقا من قبل الحب في الله في الإثنين ديسمبر 13, 2010 11:01 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالجمعة ديسمبر 10, 2010 10:03 am


القاعدة السابعة: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ

د.عمر بن عبد الله المقبل | 6/6/1430

الحمد لله، وبعد:
فهذا مَناخ ظليل بين أفنان وخمائل موضوعنا المحجّل، ذي الغرة البهية: (قواعد قرآنية)، نتفيأ فيه ظلال قاعدة من قواعد التعامل الإنساني، تلكم القاعدة هي ما دل عليها قوله تعالى:

{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]

لقد وردت هذه القاعدة في سياق الحديث عن موقفٍ سجله القرآن لبيان أصناف المعتذرين عن غزوة تبوك ـ والتي وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة ـ ومَنْ هم الذين يعذرون والذين لا يعذرون؟!
يقول سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 90 - 93].
والمعنى: "ليس على أهل الأعذار الصحيحة من ضعف أبدان أو مرض أو زَمَانة، أو عدم نفقةٍ إثمٌ، بشرط لا بد منه، وهو: " إذا نصحوا " أي: بنياتهم وأقوالهم سراً وجهراً، بحيث لم يرجفوا بالناس، ولم يثبطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا...، ثم أكد الرجاء بقوله " والله غفور رحيم" (1).

وبما أن القاعدة المقررة عند أكثر أهل العلم هي: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا يعني توسيع دلالة هذه القاعدة القرآنية التي دل عليها قوله سبحانه: (ما على المحسنين من سبيل).
وهذا يدل على أن الأصل هو سلامة المسلم من أن يلزم بأي تكليف سوى تكليف الشرع، كما أن الآية تدل بعمومها أن الأصل براءة الذمة من إلزام الإنسان بأي شيء فيما بينه وبين الناس حتى يثبت ذلك بأي وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعاً.

أيها المحب لكتاب ربه:

لقد كانت هذه الآية ـ ولا زالت ـ دليلاً يفزع إليه العلماء في الاستدلال بها في أبواب كثيرة في الفقه، خلاصته يعود إلى أنه "من أحسن على غيره، في نفسه أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط، أن عليه الضمان"(2).
وإذا تجاوزنا الجانب الفقهي الذي أشرتُ إليه بإجمال، فلنتلفت قليلاً إلى ميدان من الميادين التي نحتاج فيها إلى هذه القاعدة.. ذلك أن حياتنا تحفلُ بمواقف كثيرة يُفْتَحُ فيها باب الإحسان، وتتاح لآخرين أن يحسنوا على غيرهم فيبادروا بتقديم خدمة ما، وأول هؤلاء هم أهل بيت الإنسان: من زوجة أو زوج أو ولد! فمن المؤسف أن يتجانف البعض هداية هذه القاعدة القرآنية، فيلحقوا غيرهم اللوم والعذل، والعتاب الشديد، مع أنهم محسنون متبرعون، فيساهمون ـ بذلك ـ شعروا أم لم يشعروا بإغلاق باب الإحسان أو تضييق دائرته بين العباد.

أخي الموفق: تأمل هذا الصورة:


يسعى أحد الناس في محاولة إتقان عملٍ دعوي بناء، أو اجتماعي مصلح، أو عائلي مثمر، ويبذل فيه جهده، وربما يبذل ماله، ويسير بعزمات ووثبات، وهو في هذا الأثناء يطلب من غيره أن يساعده ويعينه على العمل فلا يجد مواسيا، ولا رفدا، ولا ساعدا مساعدا، فيمضي وحده، ويجتهد مثابراً لينجح العمل ويبدوا وضاح المحيا، متألق الطلعة، فإذا جاء موعد الإفادة من هذا العمل، وظهرت بعض الثغرات، وبعض النقص الذي لا يسلم منه عمل البشر، فإذا به ـ بدلاً من أن يقابل بالشكر والتقدير مع التنبيه على الأخطاء بأسلوب لطيف ـ! يقابل بعاصفة من اللوم والعتاب، هي أشبه برمي الشرر، أو وخز الإبر، مع أن هذا الشخص قد يكون استنجد بغيره للمساعدة فلم يجد، فواصل العمل وحده، فلما حان أوان قطف الثمرة، لم يجد إلا اللوم والعتاب والسباب، بسبب قلة حيلته، وضعف قدرته، أليس هذا من أحق الناس بقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل}؟!

ثم أوليس أولئك خليقون أن يقال لهم:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ *** من اللوم، أو سدوا المكان الذي سدوا
وأمثال هذه الصورة تتكرر في مواقف أخر.. في البيت، في المدرسة، في المؤسسة، وفي الشركة، في الدائرة الحكومية، وفي العمل الإعلامي، مع العلماء والدعاة، والمحتسبين، ومع غيرهم، فما أحوجنا إلى استشعار هذه القاعدة، وطريقة التعامل مع أوهام أو أخطاء المحسنين؛ لكي لا ينقطع باب الإحسان، فإنه إذا كثر اللوم على المحسنين والمتبرعين، وتقاعس من يفترض منهم العمل، فمن يبقى للأمة، ومن يوردها على العذب الزلال؟!

وهذا كلّه ـ بلا ريب ـ لا يعني عدم التنبيه على الأخطاء أو التذكير بمواضع الصواب التي يفترض أن ينبه عليها، ولكن المهم أن يكون ذلك بأسلوب يحفظ جهد المحسن، ولا يفوت فرصة التنبيه على الخطأ؛ ليرتقي العمل، ويزداد جودة وجمالاً، ونضرة ورواءً.

ومن المهم ـ أيضاً ـ ونحن نتحدث عن هذه القاعدة القرآنية، أن لا نخلط بين ما تقدم وبين أن يلتزم الإنسان بشيءٍ ما، ثم يتخلى عنه، بحجة أنه محسن، فإن هذا من الفهم المغلوط لهذه القاعدة، ذلك أن الإنسان قبل أن يلتزم بوعد لطرف آخر فهو في دائرة الفضل والإحسان، لكن إن التزم بتنفيذ شيءٍ، والقيام به، فقد انتقل إلى دائرة الوجوب الذي يستحق صاحبه الحساب والعتاب، ولعل مما يقرب تصور هذا المعنى: النذر، فإن النذر إلزام المكلف نفسه بشيءٍ لم يكن واجباًً عليه بأصل الشرع، كمن ينذر أن يتصدق بألف ريال، فهذا قبل نذره لا يلزمه أن يتصدق ولو بريال واحد، لكنه لما نذر، فقد التزم، فوجب عليه الوفاء، وهكذا ما نحن بصدده، وإنما نبهت على هذا لأن من الناس من أساء فهم هذه القاعدة، وطردها في غير موضعها، فصار ذلك سبباً في وجود النفرة بين بعض الناس؛ لأن أحد الطرفين اعتقد التزام الطرف الآخر، فاعتمد عليه ـ بعد الله ـ ثم تخلى ذلك الطرف عما التزم بحجة أنه محسن فوقع خلاف المقصود من باب الإحسان.

وبما تقدم من هذا الإيضاح، يتبين لك ـ أيها المؤمن الموقر لكلام ربه ـ عظمةُ هذا الكتاب العزيز، حيث تأتي الآية موجزة المبنى، معدودة اللفظ، ثم هي تزخز بمعانٍ آسرة، كبيرة المضمون، كثيرة الدلالة، غزيرة النبع، فيفيد منها العلماء الأجلاء، والمربون الأكفاء، وأمم من الناس تسقي من عيونها المتفجرة إشراقة وجزالة، وجلالة وفخامة، وإيجازا في إعجاز، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

وصدق حسان رضي الله عنه حين قال:
لقد كان في القرآن لو كنت عالما *** به مجدنا في محكمات البصائر

_________________
(1) ينظر: المحرر الوجيز ـ موافق للمطبوع - (3 / 78)، تفسير ابن كثير / دار الفكر - (2 / 464).
(2) تفسير السعدي: (347).



عدل سابقا من قبل الحب في الله في الإثنين ديسمبر 13, 2010 10:57 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأحد ديسمبر 12, 2010 12:58 pm


القاعدة الثامنة:

(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)


د.عمر بن عبد الله المقبل | 13/6/1430

أما بعد:
فالمسطور يبدئ ويعيد، في ثوب جديد، ويسفر بادي الحُسن وحروفه زكية، وسيماه: (قواعد قرآنية)، نقف فيه مع قاعدة من القواعد القرآنية العظيمة، التي تؤسس مبدأً شريف القدر، سامي الذرى، إنه مبدأ العدل، وهذه قاعدة طالما استشهد بها العلماء والحكماء والأدباء؛ لعظيم أثرها في باب العدل والإنصاف، تلكم هي ما دل عليها قوله تعالى:
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر: 7](1).

والمعنى: أن المكلفين إنما يجازون بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه لا يحمل أحدٌ خطيئةَ أحد ولا جريرتَه، ما لم يكن له يدٌ فيها، وهذا من كمال عدل الله تبارك وتعالى وحكمته.
ولعل الحكمة من التعبير عن الإثم بالوزر؛ لأن الوزر هو الحمل ـ وهو ما يحمله المرء على ظهره ـ فعبر عن الإثم بالوزر لأنه يُتَخّيَلُ ثقيلاً على نفس المؤمن(2).
وهذه القاعدة القرآنية تكرر تقريرها في كتاب الله تعالى خمس مرات، وهذا ـ بلا شك ـ له دلالته ومغزاه.
وإن هذا المعنى الذي دلت عليه القاعدة ليس من خصائص هذه الأمة المحمدية، بل هو عام في جميع الشرائع، تأمل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (*) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (*) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (*) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (*) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (*) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (*) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (*) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (*) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 33 - 41].
وهذا المعنى الذي قررته القاعدة لا يعارض ما دلّ عليه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وقولُه: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]؛لأن هذه النصوص تدل على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب، وإثم الذين أضلهم بقوله وفعله، كما أن الدعاة إلى الهدى يثيبهم الله على عملهم وعمل من اهتدى بهديهم، واستفاد من علمهم.
ولهذا لما اجتهد جماعة من صناديد الكفر في إبقاء بعض الناس على ما هم عليه من الكفر، أو حث من كان مؤمناً لينتقل من الإيمان إلى الكفر، أغروهم بخلاف هذه القاعدة تماماً، فقالوا ـ كما حكى الله عنهم ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 12، 13].
وإنك أخي المتوسم إذا تأملت في كلام العلماء في كتب التفسير والحديث والعقائد، والفقه، وغيرها رأيت عجباً من كثرة الاستدلال بهذه القاعدة في مواطن كثيرة:
فكم من رأي نقضه فقيه بهذه الآية، بل كم مسألة عقدية صار الصواب فيها مع المستدل بهذه الآية، والمقام ليس مقام عرض لهذه المسائل، بل المقصود التنبيه على عظيم موقعها.
وإذا أردنا أن نبحث عن أمثلة تطبيقية لهذه القاعدة في كتاب الله، فإن من أشهر الأمثلة وأظهرها تطبيق نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم لها، وذلك أنه حينما احتال على أخذ أخيه بنيامين، بوضع السقاية في رحل أخيه ـ في القصة المعروفة ـ جاء إخوته يقولون: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 78]} فأجابهم يوسف قائلاً: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ[يوسف: 79]}.
قارن هذا ـ بارك الله فيك ـ بقول فرعون حينما قال له كَهَنته: إنه سيولد من بني إسرائيل غلامٌ ستكون نهاية ملكك على يده! لقد أصدر مرسومه الظالم الآثم بقتل جميع من يولد من بني إسرائيل ـ وهم آلاف وربما أضعاف ذلك بعشرات ـ من أجل طفلٍ واحد فقط!! ولكن الذي كان يقول للناس: أنا ربكم الأعلى لا يستغرب منه هذا الأمر الخُسْر!
وفي الواقع ثمة أناس ساروا على هدي يوسف؛،فتراهم لا يؤاخذون إلا من أخطأ أو تسبب في الخطأ، ولا يوسعون دائرة اللوم على من ليس له صلة بالخطأ، بحجة القرابة أو الصداقة أو الزمالة ما لم يتبين خلاف ذلك!
وفي المقابل فمن الناس من يأخذ المحسنين أو البرءاء بذنب المسيئين..

وإليك هذه الصورة التي قد تكرر كثيراً في واقع بيوتنا:
يعود الرجل من عمله متعباً، فيدخل البيت فيجد ما لا يعجبه من بعض أطفاله: إما من إتلاف تحفة، أو تحطيم زجاجة، أو يرى ما لا يعجبه من قِبَلِ زوجته: كتأخرها في إعداد الطعام، أو زيادة ملوحة أو نقصها، أو غير ذلك من الأمور التي قد تستثير بعض الناس، فإذا افترضنا أن هذه المواقف مما تستثير الغضب، أو أن هناك خطأً يستحق التنبيه، أو التوبيخ، فما ذنب بقية الأولاد الذين لم يشاركوا في كسر تلك التحفة ـ مثلاً ـ؟! وما ذنب الأولاد أن يَصُبَّ عليهم جام غضبه إذا قصرت الزوجة في شيء من أمر الطعام؟! وما ذنب الزوجة ـ مثلاً ـ حينما يكون المخطئ هم الأولاد؟!
ومثله يقال في علاقة المعلم والمعلمة مع طلابهم، أو المسؤول في عمله، بحيث لا ينقلوا مشاكلهم إلى أماكن عملهم، فيكون من تحت أيديهم من الطلاب والطالبات أو الموظفين ضحية لمشاكل ليس لهم فيها ناقة ولا جمل!!
هنا يستحضر المؤمن أموراً، من أهمها: أن يتذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإن هذا خيرٌ مآلاً وأحسن تأويلاً، وأقرب إلى العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وثمة فهمٌ خاطئ لهذه القاعدة القرآنية، وهو أن بعضا الناس يظن أن هذه القاعدة مخالفة لما يراه من العقوبات الإلهية التي تعم مجتمعاً من المجتمعات، أو بلداً من البلاد، حينما تفشو المنكرات والفواحش والمعاصي، وسَبَبُ خطأ هذا الفهم، أن المنكر إذا استعلن به الناس، ولم يوجد من ينكره، فإن هذا ذنب عظيمٌ اشترك فيه كلُّ من كان قادراً على الإنكار ولم ينكر، سواءٌ كان الإنكار باليد أو باللسان أو بالقلب وذلك أضعف الإيمان، ولا عذر لأحد بترك إنكار القلب، فإذا خلا المجتمع من هذه الأصناف الثلاثة ـ عياذاً بالله ـ مع قدرة أهلها عليها استحقوا العقوبة، وإن وجد فيهم بعض الصالحين.
تأمل معي قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]!
يقول العلامة السعدي(3): في تفسير هذه الآية: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} بل تصيب فاعل الظلم وغيره،وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره،وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن.
ويوضح معنى هذه الآية الكريمة ما رواه الإمام أحمد: بسند حسن ـ كما يقول الحافظ ابن حجر(4) ـ من حديث عدي بن عميرة ا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ـ وهم قادرون على أن ينكروه ـ فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة"(5).
وروى الإمام أحمد: في مسنده (6) بسند جيد عن أبي بكر الصديق ا أنه خطب فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه".
وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش ل أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وفيرة، يضيق المقام بذكرها وعرضها، والمقصود إزالة هذا الإشكال الذي قد يعرض لبعض القارئين في فهم هذه القاعدة القرآنية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
و قبيل أن أضع شباة القلم، أجره إلى قول المؤمل المحاربي:
قَد بَيَّنَ الله في الكتاب *** فلا وازِرَةٌ غَيرَ وِزرِها تزرُ
______________
(1) وقد نص على كونها قاعدة الإمام المجدد في تفسيره: (57).
(2) ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور 5/293.
(3) تفسير السعدي (318).
(4) فتح الباري لابن حجر (13/4).
(5) المسند 29/258 رقم (17720).
(6) المسند 1/178.

[/size]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالإثنين ديسمبر 13, 2010 11:02 am

القاعدة التاسعة

(وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)

د.عمر بن عبد
الله المقبل | 22/9/1430

الحمد لله رب العالمين، وصلى
الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا حديث متجدد عن قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب العدل والجزاء، ولتدبرها أثرٌ في فهم المؤمن لما يراه أو يقرأه في كتب التاريخ، أو كتاب الواقع من تقلبات الزمن والدهر بأهله، سواء على مستوى الأفراد أم الجماعات، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قوله تعالى:
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18].

ولعل إيراد الآية الكاملة التي ذكرت فيها هذه القاعدة مما يجلي لنا أبرز صور الإهانة التي تنزل الإنسان من عليائه، يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].


فهل أدركتَ معي ـ أخي ـ وأنت تستمع لهذه الآية الكريمة أن أعلى وأبهى وأجلى صور كرامة العبد أن يوحّد ربه، وأن يفرده بالعبادة، وأن يترجم ذلك بالسجود لربه، والتذللِ بين يدي مولاه، وخالقِه ورازقه، ومَنْ أمرُ سعادتِه ونجاته وفلاحِه بيده سبحانه وتعالى، يفعلُ ذلك اعترافاً بحق الله، ورجاءً لفضله، وخوفاً من عقابه؟!


وهل أدركتَ ـ أيضاً ـ أن غاية الهوان والذلّ، والسفول والضعة أن يستنكف العبد عن السجود لربه، أو يشرك مع خالقه إلهاً آخر؟! وتكون الجبال الصم، والشجر، والدواب البُهمُ، خيراً منه حين سجدت لخالقها ومعبودها الحق؟!


أيها الإخوة:

وإذا تبيّن هذا فإن هذه القاعدة القرآنية الكريمة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} جاءت في سياق بيان من هم الذين يستحقون العذاب؟ إنهم الذين أذلوا أنفسهم بالإشراك بربهم، فأذلهم
الله بالعذاب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} فلا يجدون حينها من يكرمهم بالنصر، أو بالشفاعة!

وتأمل ـ أيها المبارك ـ كيف جاء التعبير عن هذا العذاب بقوله: {ومن يهن الله} ولم يأت بـ(ومن يعذل الله) وذلك ـ والله أعلم ـ "لأن الإهانة إذلالٌ وتحقيرٌ وخزيٌ، وذلك قدرٌ زائدٌ على ألم العذاب، فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان" (1).


ثم تأمل كيف جاء التعبير عن ضد ذلك بقوله: (فما له من
مكرم فإن لفظ "الكرم لفظ جامع للمحاسن والمحامد، لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام المحاسن، والكرم كثرة الخير ويسرته،... والشيء الحسن المحمود يوصف بالكرم، قال تعالى: {أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} [الشعراء: 7]، قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن، والقرآن قد دل على أن الناس فيهم كريم على الله يكرمه وفيهم من يهينه، قال تعالى: {إن أكرمكم عندالله أتقاكم}الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحجرات:13]، وقال تعالى: {ومن يهن [الحج:18] (2)

أيها القارئ الكريم:

وإذا كان الشرك بالله هو أعظم صورةٍ يذل بها العبد نفسه، ويدسها في دركات الهوان، فإن ثمةَ صوراً أخرى ـ وإن كانت دون الشرك ـ إلا أن أثرها في هوان العبد وذله ظاهر بيّن: إنه ذل المعصية، وهوان العبد بسببها، يقول ابن القيم: موضحاًً شيئاً من معاني هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وهو يتحدث عن شيء من شؤم المعاصي، وآثارها السيئة:
"ومنها: أن المعصية سببٌ لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم!.
وإذا هان العبد على
الله لم يكرمه أحد، كما قالالله تعالى : {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}! وإنْ عَظّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم، أو خوفاً من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه...
إلى أن قال: وهو يتحدث عن بعض عقوبات المعاصي:

"أن يرفع
الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمر الله، واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه منالله يخافه الناس، وعلى قدر تعظيمهالله وحرماته يعظم الناس حرماته! وكيف ينتهك عبدٌ حرمات الله ويطمع أن لا ينهك الناس حرماته؟! أم كيف يهون عليه حقالله ولا يهونه الله على الناس؟! أم كيف يستخف بمعاصي ا لله ولا يستخف به الخلق؟!

وقد أشار سبحانه إلى هذا ـ في كتابه ـ عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس أربابها بما كسبوا، وغطي على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره، ولهذا قال تعالى ـ في آية سجود المخلوقات له ـ: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} فإنهم لما هان عليهم السجود له، واستخفوا به، ولم يفعلوه أهانهم، فلم يكن لهم من مكرم بعد أن أهانهم، ومن ذا يكرم من أهانه
الله و يهن من أكرم... إلى أن قال:: ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمتقي والمطيع... ونحوها، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء...، وأمثالها فهذه أسماء الفسوق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان التي توجب غضب الديان، ودخول النيران، وعيش الخزي والهوان، وتلك أسماء توجب رضى الرحمان، ودخول الجنان، وتوجب شرف المتسمي بها على سائر أنواع الإنسان، فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل ناهٍ عنها، ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجباتها؛ لكان في العقل أمرٌ بها ولكن لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا مقرب لمن باعد، ولا مبعد لمن قرب، ومن يهن الله فماله من مكرم، إنالله يفعل ما يشاء"(3) انتهى كلامه.

معشر القراء الكرام:

وفي كلمة ابن القيم الآنفة: "ومن ذا يكرم من أهانه الله، أو يهنْ من أكرم؟" إشارة إلى معنى يفهم من هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وهو أن من أكرمه ربه بطاعته، والانقيادِ لشرعه ظاهراً وباطناً، فهو الأعز الأكرم، وإن خاله المنافقون أو الكفار الأمر على خلاف ذلك، كما قال من طمس
الله على بصائرهم من المنافقين وأشباههم: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[المنافقون: 8] إي والله.. لا يعلمون من هم أهل العزة حقاً!


ألم يقل الله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران: 139]؟!

وكيف يشعر المؤمن بالهوان وسنده أعلى؟! ومنهجه أعلى؟! ودوره أعلى؟ وقدوته ج أعلى وأسمى؟!
فهل يعي ويدرك أهل الإيمان أنهم الأعزة حقاً متى ما قاموا بما أوجب
الله عليهم؟

وأختم حديثي عن هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}،بكلمة رائعة لشيخ الإسلام ابن تيمية: حيث يقول:

"الكرامة في لزوم الاستقامة، واللهُ تعالى لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء
الله الذين قالالله فيهم: {ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون}" (4)، أسأل الله و بركاته.
تعالى أن يجعلني وإياكم منهم، وأن يكرمنا وإياكم بطاعته، ولا يذلنا ويهيننا بمعصيته، وإلى لقاء جديد بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة
_______________
(1) مجموع الفتاوى 15/367.
(2) مجموع الفتاوى 16/295.
(3) الجواب الكافي: (38 – 52) باختصار.
(4) التحفة العراقية في الأعمال القلبية: (12)


عدل سابقا من قبل الحب في الله في السبت ديسمبر 25, 2010 6:54 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأحد ديسمبر 19, 2010 10:46 am

القاعدة العاشرة: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) - 2





د.عمر بن عبد الله المقبل







سلسلة قواعد قرانية Thequran_12


==================================





الحمد لله، وبعد:

فهذه أحرف ممتدة بالقاعدة القرآنية السابقة، التي دل عليها قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36].
و قد ذكرتُ سلفا، موضعَ ورود هذه
القاعدة، وسِرَّ تقديم الذكر على الأنثى في الآية، كما أشرتُ إلى نماذج
تطبيقية من القرآن الكريم على هذه القاعدة، كما أشرتُ إلى شيء من الحكم في
التفريق بين المرأة والرجل في مسألة الميراث والشهادة، وفي هذا المسطور
نستكمل ما بقي من إشارات تتعلق بيان هذه القاعدة التي كثر الأخذ والرد فيها
في زماننا هذا، فنقول

لقد حكم الله العليم الخبير بأن الذكر
ليس كالأنثى، لذا فعلى المؤمن أن يحذر من كلمة راجت على كثير من الكتاب
والمثقفين، وهي كلمة "المساواة" في مقام الحديث عن موضوع المرأة، وهي كلمةٌ
لم ترد في القرآن بهذا المعنى الذي يورده أولئك الكتاب، كقوله تعالى: {لا
يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}
،
وكقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ
أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ}،
وكقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}
والصواب ـ كما
قال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين: فيما سمعته منه ـ أن يعبر عن ذلك
بـالعدل؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعدل
وَالْأِحْسَانِ}،
ولم يقل: يأمر بالمساواة! لأن في كلمة المساواة إجمالاً
ولبساً بخلاف العدل، فإنها كلمة واضحة بينه صريحة في أن المراد أن يعطى كل
ذي حق حقه. انتهى.


ولكي يتضح كلام شيخنا، أوضح ذلك:

فإن دلالة العدل تقتضي أن يتولى الرجل
ما يناسبه من أعمال، وأن تتولى المرأة ما يناسبها من أعمال، بينما كلمة
مساواة: تعني أن يعمل كلٌ من الجنسين في أعمال الآخر!

ومدلول كلمة العدل: أن تعمل المرأة
عدداً من الساعات يناسب بدنها وتكوينها الجسمي والنفسي، بينما مقتضى
المساواة:
أن تعمل المرأة نفس ساعات الرجل، مهما اختلفت طبيعتهما!

وهذا كلّه عين المضادة للفطرة التي فطر الله عليها كلاً من الرجل والمرأة!

ولهذا لما أصرت بعض المجتمعات الغربية
على هذه المصادمة للفطرة، وبدأت تساوي المرأة بالرجل في كل شيء ذاقت
ويلاتها ونتائجها المرة، حتى صرخ العقلاء منهم ـ رجالاً ونساء ـ وكتبَوا
الكتب والرسائل التي تحذر مجتمعاتهم من الاستمرار وراء هذه المصادمة، ومن
ذلك:

1 ـ ما قالته أفيسون زعيمة حركة كل
نساء العالم تقول: '' هناك بعض النساء حطمن حياتهن الزوجية عن طريق إصرارهن
على المساواة بالرجل، إن الرجل هو السيد المطاع، ويجب على المرأة أن تعيش
في بيت الزوجية، وأن تنسى كل أفكارها حول المساواة ''.ا.هـ.


2 ـ وهذه هيلين أندلين وهي خبيرة في
شؤون الأسرة الأمريكية ت
قول: ''إن فكرة المساواة - التماثل- بين الرجل
والمرأة غير عملية أو منطقية، وإنها ألحقت أضراراً جسمية بالمرأة والأسرة
والمجتمع''. أ.هـ.


3 ـ أما رئيسة الجمعية النسائية
الفرنسية رينيه ماري
فتقول: ''إن المطالبة بالمساواة الكاملة بين الرجل
والمرأة تصل بهما إلى مرحلة الضياع، حيث لا يحصل أحد من الطرفين على
حقوقه''. أ.هـ.، ولو رجعنا إلى لغة الأرقام التي أجريت في بلاد الغرب لطال
بنا المقام.


وهذه كلمات قالتها امرأة من أشهر دعاة الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة في منطقة الخليج(1):

(سأعترف اليوم بأنني أقف في كثير من
الأشياء ضد ما يسمى بـ (حرية المرأة) تلك الحرية التي تكون على حساب
أنوثتها، على حساب كرامتها، وعلى حساب بيتها وأولادها، سأقول: إنني لن
أحمّل نفسي– كما تفعل كثيرات – مشقة رفع شعار المساواة بينها وبين الرجل،
نعم أنا امرأة!


ثم تقول: (هل يعني هذا أن أنظر إلى
البيت – الذي هو جنة المرأة – على أنه السجن المؤبد، وأن الأولاد ما هم إلا
حبل من مسد يشد على عنقي؟ وأن الزوج ما هو إلا السجان القاهر الذي يكبّل
قدمي خشية أن تسبقه خطوتي؟ لا، أنا أنثى وأعتز بأنوثتي، وأنا امرأة أعتز
بما وهبني الله، وأنا ربة بيت، ولا بأس بعد ذلك أن أكون عاملة أخدم خارج
البيت نطاق الأسرة، ولكن– ويا رب أشهد!: بيتي أولاً، ثم بيتي، ثم بيتي، ثم
العالم الآخر) انتهى.

وبعد هذا كله: فماذا يقال عمن سوّى بين الذكر والأنثى، والذي خلقهما يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}؟.

وإنك لا تتعجب أن يقع الرد لهذا الحكم
القدري من كفار! أو ملاحدة! وإنما تستغرب أن يقع هذا من بعض المنتسبين لهذا
الدين، والذين يصرحون في مقالاتهم وكتاباتهم بأن هذا الحكم كان في فترة
نزول الوحي يوم كانت المرأة جاهلة لم تتعلم! أما اليوم فقد تعلمت المرأة،
وحصلت على أعلى الشهادات! ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ!

وهذا الكلام خطير جداً؛ قد يكون ردّةً
عن الدين؛ لأنه ردٌّ على الله تعالى، فإنه هو الذي قدر هذا الحكم، وهو الذي
يعلم ما ستؤول إليه المرأة إلى يوم القيامة


ثم إن التاريخ والواقع يكذب هذه المقولة من جهتين:

الأولى:
أن تكوين المرأة النفسي والبدني (الفسيولوجي) لم يتغير منذ خلق الله تعالى
أمنا حواء من ضلع أبينا آدم، وإلى أن يرث الله ومن عليها! ولم يربط الله
تعالى ذلك بعلمٍ تتعلمه، أو بشهادة تحصل عليها.


والجهة الثانية

بيان خطأ هذه المقولة:

أن هذا الحكم يدخل فيه أمهات المؤمنين ـ
رضوان الله عليهن ـ وعلى رأسهن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهن ـ
بلا ريب ـ أعلم نساء هذه الأمة، وأتقاهن، ومع ذلك لم تتعرض واحدهن منهن على
هذه الأحكام الشرعية التي سمعنها مباشرة من زوجهن رسولِ الله ج، بل قابلن
ذلك بالانقياد والتسليم، والرضى والقبول، وجرى على هذا الهدي من سار على
نهجهن من نساء المؤمنين إلى يومنا هذا

ولعلي أختم هذه القاعدة بهذه القصة
الطريفة ـ التي سمعتها من أحد الباحثين، وهو يتكلم عن زيف الدعوى التي
تطالب بفتح الباب للنساء لكي يمارسن الرياضة كما يمارسها الرجال ـ يقول هذا
الباحث وفقه الله:

إن أحد العدائين الغربيين المشهورين
تعرف إلى امرأة تمارس نفس رياضة العدو، فرغب أن يتزوجها، وتمّ له ما أراد،
لكن لم يمض سوى شهرين على زواجهما حتى انتهى الزواج إلى طلاق! فسئل هذا
العدّاء: لماذا طلقتها بهذه السرعة؟! فقال: لقد تزوجت رجلاً ولم أتزوج
امرأة!! في إشارة منه إلى القسوة في التمارين ـ التي تتطلبها رياضة العدو ـ
أفقدتها أنوثتها، فأصبحت في جسم يضاهي أجسام الرجال.

وصدق الله العظيم، العليم الخبير: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}، فهل من مُدّكر


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 21, 2010 9:49 am

القاعدة الحادية عشرة:

(وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)
د.عمر بن عبد الله المقبل | 5/7/1430

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم
وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
فمهوى أبصارنا ميعاد يتنور مع هتيك المرسوم الموسوم بـ: (قواعد قرآنية)،
نمضي فيه الساعة بزورق قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي يحتاجها
الناس، كل الناس، وخصوصاً في هذا الزمن الذي روجت فيه سوق السحرة
والمشعوذين، إنها القاعدة التي بثها المولى في قوله تعالى:

{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]

(1)، وفي معنى هذه القاعدة قوله تعالى ـ على لسان موسى ـ: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77].

وهذه القاعدة ـ أعني قوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}
[طه: 69] ـ جاءت في تضاعيف قصة موسى مع سحرة فرعون في سورة طه، بعد أن
واعدهم موسى، هو في خندق، وفرعون ومن معه من السحرة في خندق آخر، فلما
اجتمعوا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ
أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (*) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (*)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (*) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ
أَنْتَ الْأَعْلَى (*) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا
إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى
(*)... الآيات}
[طه: 65 - 69].

ووجه اطراد هذه القاعدة: أن المتقرر في علم النحو: أن الفعل إذا كان في
سياق النفي فإن ذلك يكسبه صفة العموم، وهكذا الفعل (لا يفلح) فإنه جاء في
سياق النفي، فدل ذلك على عمومه، فلن يفلح ساحر أبداً، مهما احتال، وتأمل
كيف عمم ذلك بالأمكنة فقال: (حيث أتى)(2).

وتأمل ـ وفقك الله وحفك بأوسمة رحمته ـ في سر اختيار الفعل (أتى) دون قوله ـ
مثلاً ـ: حيث كان، أو حيث حل؛ ولعل السر في ذلك: من أجل مراعاة كون معظم
أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر المختلفة، كما قال تعالى: {فَجُمِعَ
السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}
[الشعراء:38](3).

يقول العلامة الشنقيطي: ملعقاً على نفي الفلاح عن الساحر مطلقاً:
"وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفي بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ويدل على ما ذكرنا أمران:
الأول: هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر، كقوله تعالى:
{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ}
[البقرة: 102]. فقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} يدل
على أنه لو كان ساحراً ـ وحاشاه من ذلك ـ لكان كافراً، وقوله {وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
صريح في كفر معلم
السحر.

الأمر الثاني: أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة {لا يفلح}
يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة "يونس": {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (*) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}
[يونس: 68، 69] ، وقولِه في "يونس"
أيضا: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ
كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}
[يونس: 17]"(4).

أيْ قارئ المسطور:
كم هي الآيات التي تحدثت عن السحر والسحرة في كتاب الله تعالى؟! وأخبرت عن
ضلالهم، وبوارهم وخوارهم، وخسارتهم في الدنيا والآخرة؟! ومع هذا فيتعجب
المؤمن ـ أشد العجب ـ من رواج سوق السحر والسحرة في بلاد الإسلام!
وليس العجب من وجود ساحر أو ساحرة، فهذا لم يخل منه أفضل الأزمان،وهو الزمن الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن غيره!
وليس العجبُ ـ أيضاً ـ من ساحر يسعى لكسب الأموال بأي طريق، وحيثما أتى!
لكن العجب من أمة تقرأ هذا الكتاب العظيم، وتؤمن بصدقه، وتقرأ ما فيه من
آيات صريحة واضحة في التحذير من السحر وأهله، وبيان سوء عاقبتهم ومآلهم في
الدنيا والآخرة، ومع ذلك يقف أبناء الأمة زرافاتٍ ووحداناً أما عتبات أولئك
السحرة المجرمين؟! سواء أمام بيوتهم، أم أمام شاشات قنوات السحر والشعوذة،
والتي سفرت فاجرة كافرة منذ فترة من الزمن! يلتمسون منهم التسبب في إيقاع
الضر بأحد أو إزالته عن آخر، وكأن هؤلاء لم يقرأوا قول الله تعالى: {وَمَا
هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} [
البقرة: 102]!

والمقطوع به ـ أيها الإخوة ـ أنه لولا تكاثر الناس على هؤلاء السحرة لما راجت سوقهم، ولما انتشر باطلهم!
إن مرور الإنسان بحالة مرضية صعبة، أو حالة نفسية شديدة، لا يبيح له بحال
أن يرد هذه السوق الكاسدة ـ سوق السحرة ـ فإنهم لا يفلحون، وإن الله تعالى
أرحم وأحكم من أن يحرم عليهم إتيان السحرة، ولا ينزل لهم دواء لما ابتلوا
به! كما قال النبي ج ـ فيما رواه مسلم من حديث جابر ا ـ: "لكل داء دواء
فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل"
(5).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة اأن النبي ج قال: {ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء}(6).
ولعظيم ضرر السحر، فقد حرمته جميع الشرائع.

إذن.. أيها القارئ المسدد:
من أيقن بأن الساحر لا يفلح حيثُ أتى، وأيقن بأنه لا يفلح الساحرون، دفعه هذا إلى أمورٍ، من أهمها:
1. البعد عن إتيان هذا الصنف من الناس الذين نفى الله فلاحهم في الدنيا
والآخرة ـ بغية علاج أو نحوه ـ وكيف يرتجى النفع ممن حكم عليه رب العالمين
بأنه خاسر في الدنيا والآخرة!!

2. الحذر من التفكير في ممارسة شيء من أنواع السحر، مهما كان المبرر، سواء
بقصد العطف، أو الصرف ـ كما تفعله بعض النساء ـ وتظن أن قصدَ استمالةِ
الزوجِ، أو منعِه من الزواج عليها، ونحو ذلك من الشبه، أن ذلك يبيح لها ما
تصنع، فإن هذا كله من تزيين الشيطان وتلبيسه.

3. ليعلم من كل من يمارس السحر أو تسبب في فعله ذلك أنه على خطر عظيم، وأنه
قد باع دينه بثمن بخس، وأن الشياطين هم شيوخه وأساتذته في عمله هذا، كما
قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ...}
إلى قوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون}
[البقرة: 102].

4. إن ضعفت النفس لحظة، وزين الشيطان لها شيئاً من هذه الأفعال المنكرة،
فليبادر بالتوبة الآن، وليقلع عن هذا العمل الباطل، وليتحلل ممن لحقه الأذى
من جراء هذا الفعل، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، وقبل أن يوقف للحساب
بين يدي من لا تخفى عليه خافية، الذي يعلم من هو الساحر؟ ومن هو المسحور؟
ومن هو المتسبب في ذلك كله! فيقتص للمظلوم من ظالمه، حين تكون الحسنة أغلى
من الدنيا وما عليها!

5. إن يقين المؤمن بهذه القاعدة: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} مما يقوي عبادة
التوكل عنده، وعدم الخوف من إرهاب هذا الصنف الحقير من الناس، وهم السحرة،
ويتذكر عندها، قول الله عز وجل: {أليس الله بكاف عبده} وفي قراءة: {أليس
الله بكافٍ عباده}؟ والجواب: بلى والله.

ومما يحسن تأمله والتفكرُ فيه: أن هؤلاء السحرة رغم ما يملكون من الأموال،
وما يعيشونه من سكرة التفات الناس إليهم، إلا أنهم من أتعس حياةً، وأخبثهم
نفوساً، ولا عجب! فمن سلّم قياده للشياطين، وكفر برب العالمين، كيف يسعد أم
كيف يفلح؟!

ختاماً لنطلب العون من المالك المدبر المتصرف؛ وتأكد يقيناً أنه:
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده

________________
(1) وممن نص على أن هذه قاعدة كلية من قواعد القرآن: الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب في تفسيره: (301).
(2) ينظر: أضواء البيان 4/551 ط.الراجحي.
(3) ينظر: التحرير والتنوير 9/144.
(4) ينظر: أضواء البيان 4/552 ط.الراجحي.
(5) صحيح مسلم، ح (2204).
(6) صحيح البخاري ح (5678)


عدل سابقا من قبل الحب في الله في السبت ديسمبر 25, 2010 6:42 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالخميس ديسمبر 23, 2010 11:06 am

القاعدة الثانية عشرة:

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)

د.عمر بن عبد الله المقبل | 12/7/1430

الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، وخلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة
والسلام على خير من صلى وزكى وصام، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله،
وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمنار منيف، وروضة أنف حديث موضوعنا المحجل: (قواعد قرآنية)، نقف فيه
ملوحين مع قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي تدل على عظمة هذا
الدين، وسموه، وعلو مبادئه، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله
تعالى:

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

إن هذه الآية العظيمة، جاءت في سورة الحجرات، وإن شئت فسمها: جامعة الآداب،
فبعد أن ذكر الله تعالى جملةً من الآداب العظيمة، والخلال الكريمة، ونهى
عن جملة من الأخلاق الرذيلة، والطباع السيئة، قال الله بعدها، مقرراً الأصل
الجامع الذي تنطلق منه الأخلاق الحسنة، وتضعف معه أو تتلاشى الأخلاق
السيئة، وأنه معيار التفاضل والكرامة عند الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
[الحجرات: 13].
إنها لآية عظيمة، تبرز ميزان العدل الذي لم تظهر تفاصيله كما ظهرت في هذا الدين.

أيها القارئ الحصيف:
لن يتبين لك موقع هذه الآية الكريمة إلا إذا استعرضتَ في ذهنك شيئاً من
الموازين التي كان يتعامل بها عرب الجاهلية في نظرتهم لغيرهم من غير
قبائلهم، سواءٌ كانوا من قبائل أخرى أقل منها درجة في النسب، أو في نظرتهم
للأعاجم، أو في تعاملهم مع العبيد والموالي!

وإليك هذا الموقف الذي وقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحدّث به الصحابي صادق اللهجة: أبو ذر رضي الله عنه:
روى الشيخان من حديث المعرور بن سويد: قال: مررنا بأبي ذر بالربذة، وعليه
بُردٌ وعلى غلامه مثله، فقلنا يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال:
إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه،
فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
«يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية »! قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا
أباه وأمه، قال: «يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت
أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم
فإن كلفتموهم فأعينوهم »(1)!

فهذا أبو ذر مع صدق إيمانه، وسابقته في الإسلام، لامه النبي صلى الله عليه
وسلم، وعاتبه لما خالف هذه القاعدة القرآنية العظيمة، وعيّر الرجل بمنطق
أهل الجاهلية!

وليس هذا الموقف الوحيد الذي ربّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم على
الاهتداء بهدي هذه القاعدة، بل كررها بعدة أساليب بيانية، وعملية، ولعلي
أكتفي بهذين الموقفين الذين لا يمكن أن تنساهما العرب ولا قريش أبد الدهر:
أما الموقف الأول:
فهو يوم فتح مكة، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يصعد فوق
الكعبة ليرفع الأذان، في مشهد ما ظنّ بعض مُسْلِمةِ الفتح أن يعيش ليرى هذا
العبد الحبشي يقف كهذا الموقف! ولكنه الإسلام، والهدي النبوي الذي يربي
بالفعل والقول.

وفي ذات اليوم ـ فتحِ مكة ـ يدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبةَ ويصلي
فيها، ولك أن تتفكر من هي الشخصيات المتوقعة التي حظيت بشرف مرافقته في
دخوله هذا، والذي أغلق عليه الباب بعد دخوله ومن معه؟! لعله أبو بكر وعمر
رضي الله عنهما؟ كلا.. إذن لعله صهره وزوج ابنتيه ذي النورين: عثمان، وابن
عمه علي رضي الله عنهما؟ كلا.. إذن لعله دخل بعض مسلمة الفتح من أكابر
قريش؟ كلا, بل لم يدخل معه سوى: أسامة بن زيد ـ مولاه ابن مولاه ـ وبلال
الحبشي، وعثمان بن طلحة المسؤول عن مفتاح الكعبة (2)!
الله أكبر! أي برهان عملي على إذابة المعايير الجاهلية أكبر من هذا؟ مع أن
في الحضور من هو أفضل من بلال وأسامة كالخلفاء الأربعة، وبقية العشرة
المبشرين!

وأما الموقف الثاني:
فإنه وقع في أعظم مشهد عرفته الدنيا في ذلك الوقت... إنه مشهد حجة الوداع،
ففي بعض مشاهد تلك الحجة، وبينما الناس مستعدون للنفير من عرفة، وإذا
بالأبصار ترمق الدابة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يركبها،
ويتساءلون: من الذي سيحظى بشرف الارتداف مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلم
يرعهم إلا وأسامة ـ ذلك الغلام الأسود: مولاه وابن مولاه ـ يركب خلف النبي
صلى الله عليه وسلم والناس ينظرون!

فعل هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي خطب ظهر ذلك اليوم خطبته
العظيمة التي قرر فيها أصول التوحيد والإسلام، وهدم فيها أصول الشرك
والجاهلية، وقال كلمته المشهورة: "إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي
هاتين موضوع".

أيها القاريء الكريم:
هذان الموقفان قطرة من بحر سيرته العطر صلى الله عليه وسلم! أما سيرة
أصحابه رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان فالمواقف فيها كثيرة وعظيمة،
أكتفي منها بهذا الموقف الذي يدل على نبلهم وفضلهم، وشرف أخلاقهم حقاً،
جعلهم أهلاً لأن يكونوا خير من يمثل عالمية الإسلام وعالمية الرسالة.

كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ـ المعروف بزين
العابدين ـ وهو من سكان مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد،
يتخطى حلق قومه من قريش، حتى يأتي حلقة زيد بن أسلم ـ وهو مولى لكنه من
علماء المدينة الكبار في زمانه ـ فيجلس عنده، فكأن بعض الناس لامه: كيف
تجلس ـ وأنت الرجل القرشي وحفيد النبي صلى الله عليه وسلم ـ عند رجل من
الموالي؟ فقال: كلمة ملؤها العقل: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في
دينه(3).

أيها القاريء الكريم:
إن من عظمة هذا الدين أنه لم يربط مكانة الإنسان ومنزلته عند الله بشيء لا
قدرة عليه به، فالإنسان لا يختار أن يكون شريف النسب! وإلا لتمنى الكل أن
يتصل بالسلالة النبوية! ولم يربطه بطول ولا قصر، ولا وسامة ولا دمامة، ولا
غير ذلك من المعايير التي ليست في مقدور البشر، بل ربطه بمعيار هو في مقدور
الإنسان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس في كتاب الله آية واحدةٌ يمدح فيها أحداً
بنسبه، ولا يَذُمُّ أحداً بنسبه، وإنما يمدحُ الإيمانَ والتقوى، ويذمَ
بالكفرِ والفسوقِ والعصيان"(4) انتهى كلامه.
ومما يشهد لما قاله شيخ الإسلام: أن الله تعالى أنزل سورة كاملة في ذم أبي
لهبٍ لكفره وعداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، ونهى اللهُ نبيّه صلى الله
عليه وسلم أن يطرد المؤمنين من ضعفة أصحابه وإن كان القصدُ من ذلك: الرغبة
في كسب قلوب أكابر قريش، فقال سبحانه: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ
مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ
فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِين}
[الأنعام: 52]، وقال له في
الآية الأخرى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ
عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطًا}
[الكهف: 28].

أيها الناظر البصير:
إن مما يؤسف له ـ في واقعنا المعاصر ـ وجود أمثلة كثيرة مخالفة لهذه
القاعدة الشريفة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} تمثلت
بصور من عودة العصبية الجاهلية للقبيلة، والتي لم تتوقف عند حد التعارف بين
أفراد القبيلة الواحدة فحسب، ولم تتوقف عند التمادح المباح، بل تجاوز ذلك
إلى الغلو في المدح، والموالاة المفرطة للقبيلة، بل والتلويح تارة بنبز
القبائل الأخرى، والتي ذوبانِ المعايير الشرعية عند البعض بسبب هذه
الأساليب التي كرسها وعزز من حضورها المسابقات الشعرية التي تبنتها بعض
القنوات الفضائية، والتي ترتب عليها محاذير شرعية أخرى ليس هذا موضع ذكرها،
وإنما الغرض الإشارة إلى مخالفتها إلى ما دلت عليه هذه القاعدة القرآنية
الكريمة، فليتق الله من يسمع ويقرأ قول ربه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
من التفاخر المذموم، وليعلم المؤمن أن من بطأ به عمله
لم يسرع به نسبه.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من أخلاق أهل الجاهلية، وأن يرزقنا التأسي برسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أمورنا.

______________
(1) البخاري (5703) ومسلم (1661).
(2) والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر: البخاري ح (2826) ومسلم (1329).
(3) ينظر: حلية الأولياء 3/138.
(4) الفتاوى الكبرى 1/164.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالسبت ديسمبر 25, 2010 6:37 pm


القاعدة الثالثة عشرة: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)


الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو
الحكيم الخبير، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على معلم الناس الخير،
نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله ، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان
إلى يوم الدين، أما بعد:
فانبلاج كانبلاج الصباح، تبرد نسيمه الرياح، في مُرْبع روضنا الأنف،
المتربع المسمى: (قواعد قرآنية)، نخبُّ فيه مع قاعدة من القواعد القرآنية،
التي توقف العبد، وتطلع الرائي على شيءٍ من عظمة الله تعالى في خلقه
وحِكمته في شرعه، وتوقف العبد على قصوره في علمه، إنها القاعدة القرآنية
التي دل عليها قول الله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
[النساء : 11]}.
هذه الآية الكريمة جاءت في سياق آيات الفرائض في صدر سورة النساء، والمعنى:
"{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} يعني: الذين يرثونكم من الآباء والأبناء {لا
تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًاً}
أي: لا تعلمون أنهم أنفع
لكم في الدين والدنيا، فمنكم من يظن أن الأب أنفع له، فيكون الابن أنفع له،
ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له، وأنا العالم بمن هو
أنفع لكم، وقد دبَّرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه"([1]).
"ولو رد تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم؛
لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان"([2]).
أيها المبصر المتأمل:
لقد كان أهل الجاهلية يقسمون الميراث بموازين غير منضبطة، فتارة يراعون
حاجة الأبوين، وتارة حاجة الأبناء، وتارة يتوسطون، فجاء الشرع المطهر ليلغي
تلك الاجتهادات، فتولى الله ـ قسمة المواريث بنفسه، ثم بيّن سبحانه في
خاتمة هذه الآية الكريمة معنيين عظيمين يعزب عنهما علم البشر مهما بلغ في
سعته، فقال ـ في خاتمتها:
1 ـ {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ
نَفْعًا
[النساء: 11]} وهي القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها.
والمعنى الثاني: 2 ـ {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا
حَكِيمًا
[النساء : 11]} فهذه فرائض، يجب تنفيذها، وعدم الافتيات عليها
بتحريف، أو تقصير، وعلل هذا بقوله: (إن الله كان عليما حكيماً) ليزداد يقين
المؤمن أن هذه القسمة صادرة عن علم تام، وحكمة بالغة، لا يمكن أن يلحقها
نقص، أو جور.

أيها المبارك:
لنعد إلى قاعدتنا التي نحن بصدد الحديث عنها: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
[النساء:11]} ولنحاول أن
نطبق هذه القاعدة على واقعنا، لعلنا نستفيد منها في تصحيح بعض ما يقع منا
من أخطاء في بعض تصوراتنا ومواقفنا الاجتماعية، فمن ذلك :
1 ـ أن بعض الآباء قد تكون خَلْفته من الذرية بنات فقط! فيضيق لذلك صدره،
ويغتم لهذا الابتلاء، فتأتي هذه القاعدة لتسكب في قلبه اليقين والرضا، وكم
من بنتٍ كانت أنفع لوالديها من عددٍ من الأبناء؟ والواقع شاهدٌ بذلك.
أعرف رجلاً لما كبرت سنه، كان أولاده بعيدون عنه في طلب الرزق، فلم يجد هذا
الوالد الذي خارت قواه، وضعفت بُنيته أكثر حنواً ورعاية من ابنته الوحيدة
التي قامت بحقه خير قيام من جهة النفقة، والرعاية الصحية، وصدق الله:
{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ
نَفْعًا
[النساء : 11]}.
هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فالأمر أعظم، والموقف أدل وأجل، قال ابن
عباس ب: أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، والله
تعالى يُشَفَّع المؤمنين بعضهم في بعض، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة
رفع إليه ولده، وإن كان الولد أرفع درجة رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم.
ومن المؤسف أن نسمع ونقرأ عن أناسٍ رزقوا عدداً من البنات، يتذمرون بل قد
يهددون زوجاتهم إن هُنّ ولدنَ لهم إناثاً ، وكأن الأمر بأيديهن ، وهذا من
الجهل ـ في الحقيقة ـ إذ كيف يلام إنسان على أمر لا طاقة له به؟
ويا ليت من يقعون في هذا الأسلوب يتأملون في أمور منها:
1 ـ هذه القاعدة القرآنية: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء : 11]}.
2 ـ ليتهم يتأملون ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ
لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (*) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}
[الشورى:49،
50].
قال ابن القيم : ـ معلقاً على هذه الآية ـ: "وكفى بالعبد تعرضاً لمقته ـ أن يتسخط ما وهبه"([3]). انتهى.

3 ـ ومما يحسن بمن ابتلي بالبنات أن يتذكر الأحاديث الواردة في فضل من عال البنات ورباهن حتى يبلغن.
ومما يُذكر به المتضجر من الابتلاء بالبنات، أن يقال له:
4 ـ هب أنك ضجرت، وتذمرت، فهل هذا سينجب لك ذكوراً؟ صحيح أن أغلب الناس
جُبِلَ على حب الذكور، لكن المؤمن ينظر إلى هذا الابتلاء بمنظار آخر، وهو:
عبودية الصبر، وعبودية الرضا عن الله، بل قد ينتقل بعض الموفقين إلى مرتبة
الشكر، لعلمه بأن خيرة الله خير من خيرته لنفسه، وأن الله قد يكون صرف عنه
شراً كثيراً حين حرمه من الذكور، أليس الله تعالى قد سلّط الخضر على ذلك
الغلام فقتله، ثم علل ذلك بقوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً
وَأَقْرَبَ رُحْمًا
[الكهف: 80 ،81]}.
ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن الشيخ علي الطنطاوي : ـ وهو ممن ابتلي
بالبنات ولم يرزق الذكور ـ كتب مقالاً، أكاد أجزم لو قرأه الذين ابتلوا
بالبنات لم يتمنوا إلا ما هم فيه.
وكما أن الآية فيها سلوة لمن ابتلوا بالبنات، ففيها سلوة لأولئك الذين
ابتلوا بأولاد معاقين، سواء كانت إعاقتهم سمعيةً أم بصريةً أم عقليةً أم
بدنية، فيقال لهم: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
[البقرة : 216]} ويقال لهم ـ أيضاً ـ: والله إنكم لا تدرون أي أولادكم أقرب
لكم نفعاً! فقد يكون هذا المعاق أقرب لكم نفعاً في الدنيا قبل الآخرة!
أما في الدنيا، فكم فتحت هذه الابتلاءات لوالدي هؤلاء المعاقين من لذة التعلق بالله، ومناجاته، ورجائه الفرج!
وكم ربّت هذه الابتلاءات في نفوس والدي المعاقين من معاني الصبر والاحتمال ما لم تكن تحصل لهم لولا هذه الابتلاءات! وكم .. وكم .. !!
وأما في الآخرة، فلعل أمثال هذه الابتلاءات بهؤلاء المعاقين تكون سبباً في رفعة درجاتهم عند الله تعالى، رفعةً قد لا تبلغها أعمالهم!

قارئ المرقوم:
ولئن كانت الآية واضحة المعنى في موضوع الابتلاء بالبنات أو بأبناء فيهم
عاهات أو إعاقات، فإنه يمكن أن يقاس عليها أمور أخرى، مثل: الأعمال
الصالحة، والمؤلفات، والمقالات، والكلمات، بل والعبادات، فلا يدري الإنسان
أي تلك الأعمال، والمؤلفات، والعبادات أكثر نفعاً له في الدنيا والآخرة.
تأمل في سؤال النبي ج لبلال اـ حينما سمع ج خشف نعليه في الجنة ـ : أخبرني
بأرجى عملته في الإسلام؟ فقال بلال : إن لم أتوضأ ساعة من ليل أو نهار إلا
صليت بذلك الوضوء ركعتين!
تأمل كيف أنه لم يذكر بلالٌ جهاده مع الرسول، ولا التزامه بالأذان !
وهذا كله يدعو العبد لأن يكثر من أبواب الخير، فالإنسان لا يدري أي أعماله
التي قد تكون سبباً في نيل رضوان الله والجنة، ولرب عملٍ كبير لكن داخله ما
داخله من حظوظ النفس، فلم ينتفع به صاحبه، ولرب عمل قليل عظمت فيه النية،
وصدق صاحبها مع الله فأثابه ثواباً لا يخطر على باله، وفي قصة المرأة البغي
التي سقت كلباً أكبر شاهد على ذلك.
ختاماً :
طوبى لمن حملته أمواج التوفيق، وأقلته مطايا التسديد، فسلم أمره مبداه
ومنتهاه لمولاه، ليرى نتاج سعيه، وثمار زرعه، لا يدري أيه أقرب له نفعاً!!،
ثم الصلاة على المختار سيدنا *** وأفضل القول قول هكذا ختما


([1]) تفسير البغوي (2 / 178).
([2]) تفسير السعدي : (166).
([3]) تحفة المودود بأحكام المولود، ص : (32) ، ولكلامه تتمة يحسن ذكرها، وهي قوله:
"وبدأ سبحانه بذكر الإناث: فقيل جبرا لهن؛ لأجل استثقال الوالدين لمكانهن،
وقيل ـ وهو أحسن ـ: إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما
يشاء الأبوان، فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالباً، وهو سبحانه قد
أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان، وعندي
وجه آخر: وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى
كانوا يئدوهن، أي: هذا النوع المؤخر عندكم مُقَدّمٌ عندي في الذكر، وتأمل
كيف نكّر سبحانه الإناث، وعرّف الذكور، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر
نقص التأخير بالتعريف، فإن التعريف تنويهٌ كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان
الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم لما ذكر الصنفين معاً قدم
الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير، والله أعلم بما أراد
من ذلك" انتهى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأحد ديسمبر 26, 2010 3:53 pm


القاعدة الرابعة عشرة: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)



الحمد لله بارئ النسم، خالق الخلق من عدم، مجزل النعم، دافع النقم، ذي
الجلال والكرم، والصلاة والسلام على محمد زاكي الشيم، بديع السيم، أجود من
الغيث إذا عم، و أنور من البدر إذا تم، وأطهر من الماء إذا زم، وعلى آله
وصحبه أولي الهمم، وصعدة القمم، أما بعد:

فبدر يتهادى من خلف تلال العتمة، ومسك يتضوع من باحة مرصوفنا المشيع:
(قواعد قرآنية)، نبحر فيها مع قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي
تجلي معنى عظيماً ومهماً في باب التسليم والانقياد لأوامر الله ورسوله،
والانقياد لحكم الشريعة، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله
تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى
مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ}
[القصص:50].

وهذه الآية الكريمة جاءت في سورة القصص، في سياق الحجاج مع المشركين، وبيان
تنوع أساليبهم في العناد لرد الشريعة، ورميهم للنبي ج بالعظائم، يقول
تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا
أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ
مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ
كَافِرُونَ (*) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى
مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
[القصص: 48 - 50]}.

والشاهد الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}
وقد بين الله تعالى هذه القاعدة في موضع آخر، فقال عز وجل: {فَذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}(1).

يقول ابن القيم: موضحاً هذه القاعدة: "فما هو إلا الهوى أو الوحي، كما قال
تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
[النجم: 3، 4] فجعل النطق نوعين: نطقاً عن الوحي، ونطقاً عن الهوى"(2)،
"فما لم يقله سبحانه ولا هدى إليه فليس من الحق، قال تعالى {فإن لم
يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم}
فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث
لهما إتباع لما دعا إليه الرسول واتباع الهوى" (3).
"فمن ترك استجابته إذا ظهرت له سنة وعَدَلَ عنها إلى خلافها، فقد اتبع هواه"(4).

أيها الناظر البصير:
إن الحاجة إلى التذكير بهذه القاعدة القرآنية العظيمة من الأهمية بمكان،
خصوصاً في هذا العصر الذي كثرت فيه الأهواء، وتنوعت فيه المشارب في التعامل
مع النصوص الشرعية، بدعاوى كثيرة، فهذا ينصر بدعته، وهذا يروج لمنهجه في
تناول النصوص، وثالث يتتبع الرخص التي توافق مراد نفسه، لا مراد الله
ورسوله!

لقد أتى على الناس زمانٌ لا يحتاج الشخص ليمتثل الأمر أو يترك النهي إلا أن
يقال له: قال الله، قال رسوله، قال الصحابة ي، فيتمثل وينصاع، ويندر أن
تجد من يناقش مناقشة المتملص من الحكم الشرعي، أما اليوم ـ وقد انفتح على
الناس أبواب كثيرة يتلقون منها المعلومات ـ فقد سمعوا أقوالاً متنوعة في
المسائل الفقهية، وليست هذه هي المشكلة، فالخلاف قديمٌ جداً، ولا يمكن
إلغاء أمر قدره الله عز وجل، إلا أن المشكلة، بل المصيبة، أن بعض الناس وجد
في بعض تلك الأقوال ـ التي قد تكون شاذةً في المقياس الفقهي ـ فرصةً للأخذ
بها، بحجة أنه قد وجد في هذه المسألة قولاً يقول بالإباحة! ضارباً عرض
الحائط بالقول الآخر الذي يكاد يكون إجماعاً أو شبه إجماع من السلف الصالح
يعلى تحريم هذا الفعل أو ذاك القول!

هذا فضلاً عن تلك المسائل التي تبين فيها خطأ قائلها من أهل العلم، بسبب
خفاء النص عليه، أو لغير ذلك من الأسباب المعروفة التي لأجلها يختلف
العلماء(5)، ولئن كان ذلك الإمام معذوراً مأجوراً ـ لخفاء النص عليه أو
لغير ذلك من الأسباب ـ فما عُذْرُ من بلغه النص عن الله أو عن رسوله؟! ثم
بعد ذلك يدعي أنه يسوغ له الأخذ بذلك القول لأجل أنه قد قيل به! مردداً
مقولةً كثر تكرارها على ألسنة هذا الصنف من الناس: ما دام أنني لم أخالف
إجماعاً قطعياً، ولا نصاً صحيحاً صريحاً، فلا حرج عليّ، ناسياً أو متناسياً
قواعد الاستدلال التي قررها الأئمة رحمهم الله.

أليس هؤلاء لهم نصيب من هذه القاعدة: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}؟!
وهنا يَحْسُنُ أن يُذَكّرُ هذا الصنف من الناس بقول الله تعالى: {بل
الإنسان على نفسه بصيرة}
وهي قاعدة قرآنية محكمة، سبق أن تناولها في حلقة
سابقة.

كما ينبغي أن يذكروا بالقاعدة التي جاءت في الحديث المشهور ـ والذي قواه
بعض أهل العلم(6)ـ: "البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم
ما حاك في النفس، وتردد في الصدر".

وهذا المعنى ـ الذي دلّ عليه الحديث ـ كما نبه على ذلك العلماء: إنما يجده
من بقي في قلبه بقية من نور، لم تطمسها ظلمة الشهوات والشبهات! أما من هام
في أودية الفسق والفجور، فإن قلبه لا يفتيه إلا بما تهواه نفسه!

وما أجمل ما حكاه ابن الجوزي: عن نفسه، وهو يصف حالاً مرّت به، تشبه ما نحن
بصدد الحديث عنه من أحوال بعض المترخصين اتباعاً لأهوائهم، يقول:
"ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، و تخايل لي
نوع طرد عن الباب وبُعْدٌ، و ظلمة تكاثفت! فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما
خرجت عن إجماع الفقهاء؟
فقلت لها: يا نفس السوء! إنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استُفْتِيْتِ لم
تفتِ بما فعلتِ، والثاني: أنه ينبغي لك يا نفسُ الفرح بما وجدت من الظلمة
عقيب ذلك؛ لأنه لولا نورٌ في قلبك ما أثر هذا عندك!"(7).

لقد جرى لي مرةً حوار عارض مع بعض هذه الفئة التي أخذت تخوض عملياً في
جملةٍ من المسائل المخالفة لما عليه جماهير العلماء، وما عليه الفتوى
عندنا، فقلتُ له: يا هذا! دعنا من البحث الفقهي المحض، وأخبرني عن قلبك،
كيف تجده، وأنت تفعل ما تفعل؟! فأقسم لي بالله: أنه غير مرتاح! وإنما يخادع
نفسه بأن الشيخ الفلاني يفتي بهذا، وهو في قرارة نفسه غير مطمئن لتلك
الفتوى! فقلتُ له: يا هذا، إن العالم الذي قال بهذه المسألة معذور؛ لأن هذا
هو مبلغ علمه، ولكن انج بنفسك، فإن صنيعك هذا هو الذي قال العلماء: إنه
تتبع الرخص، وذموا فاعله، بل جعلوا هذا الفعل نوعاً من النفاق، واتباع
الهوى، ولذا قال جمع من السلف: من تتبع الرخص فقد تزندق!

ومن تأمل كلمة الهوى في القرآن الكريم، لم يجدها ذكرت إلا في موطن الذم!
ولهذا حذر الله نبياً من خيرة أنبيائه من هذا الداء القلبي الخطير فقال:
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ
بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
[ص: 26]}؟!
ولك أن تتصور لو أن رجلاً أخذ برخص الفقهاء من عدة مذاهب في مسائل متنوعة، لاجتمع فيه شرٌّ عظيم، ولأصبح دينه مرقعاً ورقيقاً!

وليتذكر المؤمن جيداً ـ وهو يسلك مسلك تتبع الرخص ـ أنه إنما يفعل ما يفعل،
ويترك ما يترك ديانةً لله، وقياماً بواجب العبودية لهذا الرب العظيم، فكيف
يرضى العبد أن يتعامل مع ربه بدين شعاره الهوى؟!

وقبل أن نختم الحديث عن هذه القاعدة العظيمة، يجب أن نتنبه لأمرين:
الأول: الحذر من تنزيل هذه القاعدة على المسائل الشرعية التي الخلاف فيها معتبر ومعروف عند أهل العلم.
الثاني: أن المقصود بالذم هنا، هو من اتبع هواه في الاستفتاء، بحيث يتنقل
بين المفتين، فإن وافقت الفتيا ما في نفسه طبقها، وإلا بحث عن آخر حتى يجد
من يفتيه، وهذا هو اتباع الهوى بعينه، نعوذ بالله من اتباع الهوى، ونسأله ـ
أن يجعل اتباع الحق رائدنا وغايتنا.

وأختم بقول ابن دريد في "مقصورته":
وآفة العقل الهوى فمن علا *** على هواه عقله فقد نجا

_______________
(1) ينظر: التبيان في أقسام القرآن لابن القيم: (129).
(2) الصواعق المرسلة 3/ 1052.
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين - (1 / 298).
(4) الصواعق المرسلة - (4 / 1526).
(5) والتي حررها شيخ الإسلام ابن تيمية: في رسالته القيمة: رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
(6) قال ابن رجب:: "وقد روي هذا الحديث عن النبي ج من وجوه متعددة، بعض طرقه جيدة"، ينظر: جامع العلوم والحكم، شرح الحديث 27.
(7) صيد ا
الخاطر: (162) بتصرف.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالإثنين ديسمبر 27, 2010 9:36 am


القاعدة الخامسة عشرة: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)



الحمد لله الذي حمد نفسه في السماوات والأرض، وحمد نفسه في الآخرة والأولى،
وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد آدم، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن
عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فليس مثل ملتقانا بهاءا، ونضرة، لأن حديثنا لا يزال يتردد ويتجدد في آي من
القرآن، ورسمه واسمه: (قواعد قرآنية)، لنتأمل جميعاً في قاعدة من القواعد
القرآنية المحكمة، التي تبعث الأمل في نفوس أهل الإيمان، وتملأ قلوبهم ثقةً
ويقيناً، وراحة وطمأنينة، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله
تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].

وهذه الآية الكريمة جاءت مرةً على لسان موسى ج وهو يبشر قومه الذين آمنوا
به، بحسن العاقبة لهم في الدنيا قبل الآخرة، والتمكين في الأرض إن هم
لازموا التقوى.

وجاءت هذه القاعدة بلفظ مقارب، في خطاب الله تعالى لنبيه محمد ج في خواتيم
سورة طه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا
نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}
[طه:
132].

وجاءت هذه القاعدة ـ أيضاً ـ بعد انتهاء قصة قارون، في خواتيم سورة القصص،
قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ}
[القصص: 83].

ومن المعلوم أن العاقبة هنا لا تنحصر في الآخرة التي ضمن الله النجاة فيها
للمتقين، كما في قوله ـ: {والآخرة عند ربك للمتقين}، بل هي عامة في الدنيا
والآخرة، ولكن قبل أن نسأل: أين صدق هذه القاعدة، فلنسأل: أين تحقيق التقوى
على الوجه الصحيح؟! وإلا فوعد الله لا يتخلف!

أيها القارئ المسدد:
إن أدنى تأمل لمجيء هذه الآيات ـ مع تنوع سياقاتها ـ ليوضح بجلاء اطراد هذه
القاعدة، فقد أخبر بها ربنا جل وعلا في قوله: {والعاقبة للتقوى}، وبعد قصة
قارون قوله:{والعاقبة للمتقين}، وبشر بها موسى ونبينا عليهما الصلاة
والسلام.

"وحقيقة العاقبة: أنها كل ما يعقب أمراً، ويقع في آخره من خير وشر، إلا
أنها غلب استعمالها في أمور الخير، فالمعنى: أن التقوى تجيء في نهايتها
عواقب خير.
واللام ـ في قوله "للتقوى" و "للمتقين" للملك، تحقيقاً لإرادة الخير من
العاقبة؛ لأن شأن لام الملك أن تدل على نوال الأمر المرغوب، وإنما يطرد ذلك
في عاقبة خير الآخرة، وقد تكون العاقبة في خير الدنيا ـ أيضاً ـ للتقوى.
وجاءت هذه الجملة بهذا الأسلوب لتؤكد معنى العموم، أي: لا تكون العاقبة إلا للتقوى، فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل"(1).

فما أحوجنا ونحن نشاهد ما نشاهد: إن على المستوى الفردي أو الجماعي أن نتأمل هذه القاعدة، ولنبدأ بالإشارة إلى المستوى الجماعي:
فإن أمة الإسلام تمر منذ قرون بحالة من الضعف والتفرق وتسلط الأعداء على
كثير من أهله، وهذه حالٌ تجعل بعض الناس من المنتسبين للإسلام ـ وللأسف ـ
يبحث عن موطئ قدم خارج دائرة بلاد الإسلام، فيذهب غرباً أو شرقاً، بحثاً عن
مبادئ أخرى، ومذاهب مختلفة، لا تمت إلى الإسلام بصلة، بسبب شعوره البائس
بهزيمة داخلية وما تعانيه الأمة الإسلامية من تفرق وتشرذم، وفي الوقت ذاته:
انبهاره بالتقدم المادي، وما يوجد في تلك البلاد من محاسن تتعلق بحقوق
الإنسان، وغيرها من المجالات.

والمؤلم في أمثال هؤلاء أنهم لم يروا من حضارة الشرق أو الغرب إلا الجانب
الإيجابي والحسن، وعميت أبصارهم، أو تعاموا عن الجوانب المظلمة ـ وما
أكثرها ـ! هذه الحضارة التي اعتنت بالجسد، وأهملت الروح، وعمرت الدنيا
وخربت الآخرة، وسخّرت ما تملكه من أسباب مادية في التسلط على الشعوب
المستضعفة، وفرض ثقافتها، وأجندتها على من تشاء!

وعلى سبيل المثال: فإن نظام الثورة الفرنسية الذي قرر مبادئ حقوق الإنسان
والمساواة بين البشر ـ كما يزعم واضعوه ـ لم يمنعه من إبادة ثلث سكان جزيرة
هاييتي؛ لأنهم تمردوا على العبودية! كما أن القائد الفرنسي المشهور
نابليون ـ الذي أنجبته الثورة الفرنسية ـ جاء إلى بلاد مصر، ليحتلها ويقيم
نظاماً استعمارياً فيها.

والأمثلة كثيرة لا يتسع المقام لسردها، فضلاً عن التفصيل فيها، ولكن لعل من
المناسب أن نُذكّر بقضية الساعة هذه الأيام، وهي قضية انهيار النظام
الاقتصادي الرأسمالي! الذي قام على مصادمة منهج الله العادل في شأن المال،
فرأى أربابه صدق ما توعد الله به أكلة الربا من المحق، وفي كل يوم نسمع عن
مليارات ضائعة، وشركات عالمية أفلست، حينها قال من قال: لا بد من العودة
إلى المنهج الإسلامي في الاقتصاد! وصدق الله: {ومن أحسن من الله حكما لقوم
يوقنون}
، وصدق الله: {والعاقبة للتقوى}.

ألا ما أحوج الدول الإسلامية، والجماعات الإسلامية في بقاع الأرض إلى أن
يتدبروا هذه القاعدة جيداً، وأن يتأملوا جيداً في العواقب التي جناها
مخالفوا التقوى في الأنظمة والحكم والسلوك، ومن تدبر مجيء قوله تعالى ـ على
لسان موسى وهو يخاطب قومة المضطهدين عدة قرون ـ: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ
وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين}
[الأعراف: 128] من تدبرها عرف
حاجة الدول والمجتمعات لتدبر هذه الآية جيداً، وأن وعد الله لا يتخلف لمن
اتقاه دولاً كانوا أو شعوباً، تأمل معي قول مَنْ عواقب الأمور كلها إليه ـ:
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
[الحج: 41]}.

ومن أراد أن يعرف الآثار السيئة التي لقيها العالم من بعد المسلمين عن
دينهم، وخسارة العالم لعظيم مبادئ الإسلام فليقرأ كتاب الشيخ أبي الحسن
الندوي:: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!.

أما على المستوى الفردي، فإن الحديث فيها يحتاج إلى بسط أكثر، ولكن حسبنا
في مقامنا هذا أن نشير إشارة مُذِكّرة بأهمية هذه القاعدة في حياتنا
اليومية:
فإن آية القصص: {والعاقبة للمتقين} جاءت بعد قصة قارون الذي لم يصبر على شهوة المال!

وفي هذا إشارة إلى حاجة العبد ـ رجلاً كان أو امرأة ـ لتدبر هذه القاعدة
جيداً، خصوصاً وهو يعيش في جو من المغريات والفتن والصوارف عن دين الله ـ
يتدبرها ويتأملها؛ لتهوّن عليه الصبرَ عن الشهوات والملذات المحرمة...
فكلما دعته نفسه إلى ما يخالف التقوى فليذكرها بحسن العاقبة للمتقين في
الدنيا والآخرة..

وكذلك الداعية إلى الله، من أحوج ما يكون إليها وهو يسير في طريق الدعوة
الطويل، والمليء بالابتلاء بالخير أو بالشر، وخصوصاً إذا كان لا يجد معيناً
ولا ناصراً، بل قد يجد مناهضاً ومعادياً!

يقول شيخنا العلامة ابن باز: ـ بعد أن ذكر شيئاً مما تعرض له إمام الدعاة محمد ج من أذى وابتلاء، قال:
"فكيف يطمع أحد بعد ذلك أن يسلم؟ أو يقول متى كنت متقياً أو مؤمناً فلا
يصيبني شيء؟ ليس الأمر كذلك بل لابد من الامتحان , ومن صبر حَمِدَ العاقبة ,
كما قال الله جل وعلا: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ}،{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}
فالعاقبة الحميدة لأهل
التقوى, متى صبروا واحتسبوا وأخلصوا لله وجاهدوا أعداءه وجاهدوا هذه النفوس
, فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة , كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ}
فأنت ـ يا عبد الله ـ في أشد الحاجة إلى تقوى ربك،
ولزومها، والاستقامة عليها، ولو جرى ما جرى من الامتحان, ولو أصابك ما
أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله, أو من الفسقة والمجرمين فلا
تبالِ , واذكر الرسل - عليهم الصلاة والسلام - , واذكر أتباعهم بإحسان ,
فقد أوذوا، واستهزئ بهم، وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة
في الدنيا والآخرة، فأنت يا أخي كذلك اصبر وصابر"(2).

ومفهوم هذه القاعدة القرآنية المحكمة: أن كل من لم يكن تقياً في أحواله، أو
أفعاله، فلا عاقبة له حسنة، وإن أمهل زماناً، أو تُركَ دهراً، وهذه سنة
الله في خلقه، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية: يستدل بهذه القاعدة
القرآنية: (والعاقبة للمقتين) وبأمثالها ـ إبان هجوم التتار على بلاد
الإسلام ـ وكان يقسم بالله أن التتار لن ينصروا، بل سيخذلون وينكسرون، وكان
مما قاله حينها: "واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة
للمتقين وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وهؤلاء القوم مقهورون
مقموعون، والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم. فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن عاقبته، وهذا
أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين" (3).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،،

______________
(1) التحرير والتنوير - (9 / 193) بتصرف يسير.
(2) مجموع فتاوى ابن باز (2 / 289).
(3) ينظر: مجموع الفتاوى (3 / 125)، و (28 / 419).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالخميس ديسمبر 30, 2010 2:02 pm


القاعدة السادسة عشرة: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ)




الحمد لله ما حمده الحامدون، وغفل عن ذكره الذاكرون، وصلى الله وسلم على
نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان
إلى يوم الدين، أما بعد:
فهلم بادي الخير لنتدبر وقافين مع: (قواعد قرآنية)، لنتأمل جميعاً في قاعدة
من القواعد القرآنية، التي يحتاجها الإنسان في مقام التمييز بين الأقوال
والأفعال، والسلوكيات والمقالات، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول
الله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100].

والخبيث: ما يكره بسبب رداءته وخساسته، سواء كان شيئاً محسوساً، أو شيئاً
معنوياً، فالخبيث إذاً يتناول: كل قول باطلٍ ورديء في الاعتقاد، والكذب في
المقال، والقبيح من الفعال، فكل خبيث لا يحبه الله ولا يرضاه، بل مآله إلى
جهنم، كما قال ـ: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}
[الأنفال: 37].

وإذا تبين معنى الخبيث ههنا، فإن الطيب عكس معناه، فالطيب شامل: للطيب
والمباح من الأقوال والأفعال والمعتقدات، فدخل في هذه القاعدة كل ما يحبه
الله تعالى ويرضاه من الواجبات والمستحبات والمباحات.
فلا يستوي الإيمان والكفر، ولا الطاعة والمعصية، ولا أهل الجنة وأهل النار،
ولا الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة، ولا المال الحرام بالمال الحلال(1).

وهذه القاعدة القرآنية هي صدر الآية الكريمة: {قُلْ لَا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا
اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[المائدة: 100]
والتي سيقت في معرض الحديث عن أنواع من المطاعم والمشارب والصيد، وتفصيل
الحرام والحلال فيها.

ولا ريب أن الغرض من الآية ليس مجرد الإخبار بأن الخبيث لا يستوي هو
والطيب، فذلك أمرٌ مركوز في الفَطَر، بل الغرض هو الحث والترغيب في تتبع كل
طيب من القول والعمل والاعتقاد والمكسب، والتنفير من كل خبيث من القول
والعمل والاعتقاد والمكسب.

ولما كان في بعض النفوس ميلٌ إلى بعض الأقوال أو الأفعال أو المكاسب
الخبيثة، ولما كان كثيرٌ من الناس يؤثر العاجل على الآجل، والفاني على
الباقي، جاء التحذير من الخبيث بأسلوب عجيب يقطع الطريق على من قد يحتج
بكثرة من يتناول هذا الخبيث، فقال ـ: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ
الْخَبِيثِ}
وذلك أن في بعض الخبائث شيءٌ من اللذة الحسية أو المعنوية،
كالحصول على مالٍ كثير لكن من طريق حرام، أو الوصول إلى اللذة الجسدية عن
طريق الزنا، أو الخمر أو غيرهما من الملذات المحرمة، فهذه قد تغري الإنسان،
وتعجبه، إلا أنه مع كثرة مقداره، ولذاذة متناوله، وقرب وجدانه، سبب
للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية التي إليها الإشارة بقوله:
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ}
[الكهف 46]، وإذا كان
الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته يمتنع أن يكون مساوياً للطيب الذي هو
أعظمه: معرفة الله ومحبته، وطاعته، فتلك هي ـ والله ـ الحياة الطيبة التي
وعد بها ـ من استقام على أمره، بأن يطيب عيشه في الدنيا والبرزخ والآخرة،
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[النحل: 97] هؤلاء هم
الذين طابت أقوالهم وأفعالهم وحياتهم، فطاب مماتهم ورجوعهم إلى الله، كما
قال ـ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِين} [النحل: 32]
نسأل الله الكريم المنان من فضله الواسع العظيم.

أيها المسلم:
ولعظيم موقع هذه القاعدة وما دلّت عليه، فإن المتأمل للقرآن يجد عجباً من
كثرة التأكيد على العمل بما دلّت عليه هذه القاعدة، ومن ذلك:
1 ـ التأكيد على ضرورة العناية بالمكاسب الطيبة، ولم يستثن الله أحداً من
عباده المؤمنين في الحث على هذا الأمر، بالإضافة إلى العمومات الآمرة بطيب
المكسب، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ
حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين}
[البقرة: 168] إلا أن الله تعالى خص الرسل عليهم
الصلاة والسلام ـ الذين كانوا أطيب الناس حساً ومعنى ـ بخطاب خاص في هذه
المسألة بالذات، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}

[المؤمنون: 51].

وكلُّ هذا يؤكد ضرورة العناية بهذا الباب العظيم الذي هو طيب المكسب، ولقد
سلنا الصالح شديدي العناية بهذه المسألة، ولربما سافر أحدهم مئات الأميال،
وتغرب عن وطنه، كل ذلك بحثاً عن لقمة طيبة حلال، حتى قال سفيان الثوري:: إن
طلب الحلال هو عمل الأبطال.

ولقد كان من أعظم أسباب العناية بطيب المكسب عند أسلافنا أمور، من أهمها:
أ ـ أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ب ـ ومنها: أن هذه المكاسب مما تنبت عليها الأجساد.

ولهذا فإن مما يوصى به كثرة الصدقة كلما كثر المال، أو قويت فيه الشبهه،
كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم من يتعاطون التجارة، حيث يقول صلى
الله عليه وسلم ـ فيما رواه أهل السنن ـ: من حديث قيس بن أبي غرزة رضي الله
عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نسمى السماسرة ـ
فقال: "يا معشر التجار! إن الشيطان والإثم يحضران البيع ـ وفي لفظ: إنه
يشهد بيعكم الحلف واللغو فشوبوه بالصدقة ـ، فشوبوا بيعكم بالصدقة" قال
الترمذي: حديث حسن صحيح.

وإذا كان هذا شأن هذه المسألة ـ أعني طيب المكسب ـ فعلى الناصح لنفسه أن
يجتهد في طيب مكسبه، والحذر من أي شيء يكدره، خصوصاً وقد اتسعت على الناس
اليوم أنواع من المكاسب المحرمة فضلاً عن المختلطة والمشتبهة، كبعض الشركات
الموجودة في أسواق الأسهم المحلية والعالمية.

2 ـ ومن هدايات هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {قل لا يستوي الخبيث والطيب
ولو أعجبك كثرة الخبيث}
أنه لا يصح ـ أبداً ـ أن نجعل الكثرة مقياساً لطيب
شيءٍ ما، وصحته وسلامته من المحاذير الشرعية، وهذا أمرٌ يصدق على الأقوال
والأفعال والمعتقدات، بل يجب أن نحكم على الأشياء بكيفيتها وصفتها وبمدى
موافقتها للشرع المطهر.

تأمل ـ مثلاً ـ في قلة أتباع الرسل وكثرة أعدائهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ
مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
[الأنعام: 116] ،
وهذا مما يؤكد على الداعية أهمية العناية بالمنهج وسلامته، وأن لا يكون ذلك
على حساب كثرة الأتباع! وهذا موضعٌ لا يفقهه إلا من وفقه الله تعالى، ولا
يصبر عليه إلا من أعانه الله وسدده؛ لأن في الكثرة فتنة، وفي القلة ابتلاء.

وإليك مثالاً ثالثاً يجلي لك معنى هذه القاعدة بوضوح، وهو أن تتأمل في كثرة
المقالات والعقائد الباطلة وكيف أن المعتقد الحق هو شيء واحدٌ فقط، قال ـ:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
[الأنعام: 153]!

والله الذي لا إله غيره، ما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيّب مثلها وأحسن،
مع أمن من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، والعاقل حين يتحرر من هواه،
ويمتلئ قلبه من التقوى، ومراقبة الله تعالى، فإنه لا يختار إلا الطيب، بل
إن نفسه ستعاف الخبيث، ولو كان ذلك على حساب فوات لذات، ولحوق مشقات؛
فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، مسلياً نفسه بقوله تعالى:
{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى
وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}
[النساء: 77].
جعلنا الله وإياكم من الذين طابت أقوالهم وأفعالهم، فطاب منقلبهم ومآلهم،
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين.

_______________
(1) ينظر: مفردات الراغب: (272)، وتفسير ابن جزي والسعدي لهذه الآية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 6:46 pm




القاعدة السابعة عشرة: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين)


حمداً لك اللهم، وصلاةً وسلاماً على خيرتك من خلقك، نبينا وإمامنا وسيدنا
محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد:
فمرحى بكم في مهيع موضوعنا الشائق الرائق: (قواعد قرآنية)، نعيش فيها مع
قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة في أبواب المعاملات، والعلاقات بين
الناس، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّ
خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين}
[القصص: 26].

وهذه الآية الكريمة جاءت ضمن قصة موسى عليه السلام مع صاحب مدين ـ في سورة
القصص ـ، والذي كان عاجزاً عن طلب الماء فخرجت ابنتاه للسقيا، بيد أنهما
تأخرتا انتظاراً لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءة موسى وشهامته حملته
على أن يبادر ـ من غير أن ينتظر سؤالهما ـ بقضاء حاجتهما، والسقيِ لهما،
فأعجبَ هذا الفعلُ الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المقعد عن العمل، فأرسل في
طلبه، فلما جاء وحدثه بخبره، قالت له إحداهما ـ وهي العالمة بعجز والدها عن
القيام بمهام الرجال ـ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}
[القصص: 26] فقولها: {إِنَّ خَيْرَ
مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}
تعليل لطلبها، فالقوة في العمل،
والأمانة في أدائه على الوجه المطلوب.

وهذا التنصيص على هذين الوصفين هو من وفور عقل هذه المرأة التي رأت اكتمال
هاتين الصفتين في موسى عليه السلام، وهو دليل ـ كما سيأتي ـ أن هذا من
المطالب التي يتفق عليها عقلاء البشر في كل أمة من الأمم، وشريعة من
الشرائع.

وقد أخذ العلماء ـ رحمهم الله ـ هذه الآية مأخذ القاعدة فيمن يلي أمراً من
الأمور، وأن الأحق به هو من توفرت فيه هاتان الصفتان، وكلما كانت المهمة
والمسؤولية أعظم، كان التشدد في تحقق هاتين الصفتين أكثر وأكبر.

أيها الأخ الموفق:
إن من تأمل القرآن الكريم وجد تلازماً ظاهراً وبيّناً بين هاتين الصفتين (القوة والأمانة) في عدة مواضع،
ومن ذلك:
ما وصف الله به مبلغ الوحي والرسالات إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة
والسلام ـ جبريل؛ ـ في قوله ـ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي
قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين}

[التكوير: 19 - 21] فانظر ـ يا عبدالله ـ كم وصفاً وصف الله به هذا الرسول
الملكي الكريم؟! ومن ذلك وصفه بالقوة والأمانة، وهما من أعظم عناصر النجاح
والكمال فيمن يؤدي عملاً من الأعمال.

والموضع الثاني من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة، فهو قول
يوسف عليه السلام للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ}
[يوسف: 55].
"أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل
والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع
التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع
العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا
يعرفونه"(1).

ولا يخفى أن إدارة أموال مجموعة من الأيتام تحتاج إلى هاتين الصفتين فكيف
بإدارة أموال تتعلق بجماعة، أم كيف بإدارة أموال دولة بأكملها، ولهذا أبرزَ
يوسفُ عليه السلام هاتين الصفتين، ومدح نفسه بهما، لا لذات المدح، بل لأن
الوضع الاقتصادي في مصر آنذاك يقتضي مبادرة في ضبط إدارة أموالها، خصوصاً
وقد كانت مقبلة ـ بحسب الرؤيا ـ على سنين عجاف مجدبات، تحتاج إلى حكمة
وتعقل في الصرف.

أما الموضع الثالث من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة في القرآن الكريم فهو:
ما جاء في قصة سليمان عليه السلام، وهو يعرض على من كان عنده أمر إحضار عرش بلقيس ملكة سبأ:
{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ
أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا
آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ
لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}
[النمل: 38، 39].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: معلقاً على هذه المواضع الثلاثة بكلام نفيس، أنقل منه ما يناسب المقام:
"وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة
كما قال تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}...، والقوة في كل ولاية
بحسبها: فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب
والمخادعة فيها، فإن الحرب خَدْعَةٌ، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي
وطعن وضرب وركوب وكر وفر...، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم
بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.

والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وتركِ خشية
الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل من حَكم على الناس في
قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا
بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
[المائدة: 44]... إلى أن قال:
"اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله
عنه يقول: اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية
الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوةً، قدم
أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فتقدم في إمارة الحروب الرجل
القوي الشجاع وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً،
كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي
فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته
للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على
المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر...

ثم قال: مبيناً منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج في هذا الباب:
"ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الرجل لمصلحةٍ مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان"

ثم لخص كلامه الطويل في تعليقه على هذه الآية بقوله: "والمهم ـ في هذا
الباب ـ معرفةُ الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق
المقصود، فإذا عُرِفَتْ المقاصد والوسائل تَمَّ الأمر"(2).

وكان: قد قال كلمة ينبغي أن نعيها جيداً ـ معشر المستمعين والمستمعات ـ:
"ثم إن المؤدي للأمانة ـ مع مخالفة هواه، يثبته الله، فيحفظه في أهله وماله
بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده، فيذل أهله، ويذهب ماله، وفي
ذلك الحكاية المشهورة، أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه
عما أدرك؟ فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين
أقفرتْ أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم - وكان في مرض
موته- فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم، وهم بضعةَ عشر ذكراً، ليس فيهم بالغ،
فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بَنَيّ! والله ما منعتكم حقاً هو لكم،
ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما
صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على
معصية الله، قوموا عني!

قال هذا العالم ـ الذي يحكي هذه القصة ـ: فلقد رأيت بعض بنيه، حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها.
قلت (والكلام لابن تيمية): هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى المشرق
بلاد الترك، إلى أقصى المغرب، بلاد الأندلس وغيرها، ومن جزيرة قبرص، وثغور
الشام والعواصم، إلى أقصى اليمن، وإنما أخذ كل واحدٍ من أولاده، من تركته
شيئاً يسيراً، يقال: أقل من عشرين درهماً -! قال ـ أي هذا العالم الذي يحدث
بهذه القصة القصة ويعظ ذلك الخليفة العباسي ـ: وحضرتُ بعض الخلفاء، وقد
اقتسم تركتَه بنوه، فأخذ كلُّ واحدٍ منهم ستّمائة ألف دينار، ولقد رأيتُ
بعضهم، يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه!!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب!"(3)

ختاماً من أراد أن يتوسع في فهم معاني هذه القاعدة القرآنية العظيمة،
فليراجع ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "السياسية الشرعية في
إصلاح الراعي والرعية".
رزقنا الله وإياكم فهمَ كتابه والعمل به، وجعلنا وإياكم ممن يقوم بحق ما ولاه الله عليه، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

________________
(1) تفسير السعدي: (400).
(2) ينظر: السياسة الشرعية ـ مع تعليق شيخنا العثيمين عليها ـ ص: (42-63) باختصار وتصرف.
(3) ينظر: السياسة الشرعية ـ مع تعليق شيخنا العثيمين عليها ـ ص: (29-31)، وسيرة عمر بن عبدالعزيز: (338).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء يناير 12, 2011 2:26 pm


القاعدة الثامنة عشرة: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه)


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا
محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد:
فهذا موعد جديد لموضوعنا المتنور: (قواعد قرآنية)، نعيش فيها مع قاعدة من
القواعد المحكمة في أبواب التعامل مع الخلق، تلكم هي القاعدة القرآنية التي
دل عليها قول الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا
بِأَهْلِه}
[فاطر: 43].

وهذه القاعدة القرآنية جاءت ضمن سياق آيات في سورة فاطر، يحسن ذكرها ليتضح
معناها، يقول تعالى عن طائفة من المعاندين(1): {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ
إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا
نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا
يَحِيْقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلا بَأَهْلِه فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا
سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}
[فاطر: 42، 43].

ومعنى هذه القاعدة التي تضمنتها هذه الآية باختصار:
أن هؤلاء الكفار المعاندين أقسموا "بالله أشد الأَيْمان: لئن جاءهم رسول من
عند الله يخوِّفهم عقاب الله ليكونُنَّ أكثر استقامة واتباعًا للحق من
اليهود والنصارى وغيرهم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم ذلك
إلا بُعْدًا عن الحق ونفورًا منه، وليس إقسامهم لقَصْد حسن وطلبًا للحق،
وإنما هو استكبارٌ في الأرض على الخلق، يريدون به المكر السيِّئ، والخداع
والباطل، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فهل ينتظر المستكبرون الماكرون
إلا العذاب الذي نزل بأمثالهم الذين سبقوهم، فلن تجد لطريقة الله تبديلاً
ولا تحويلاً فلا يستطيع أحد أن يُبَدِّل، ولا أن يُحَوِّل العذاب عن نفسه
أو غيره" (2).

وهذا المعنى الذي قررته هذه القاعدة، جاء معناه في آيات أخر من كتاب الله
تعالى، تأمل قوله عز وجل: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} وقولَه
تعالى: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}، بل قد قرر الله تعالى أن هذا
الأسلوب ـ وهو المكر ـ إنما هو منهجٌ من مناهج أعداء الرسل مع الأنبياء
والرسل، فقال ـ في سورة الرعد: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}[
الرعد: 42]، وقال عز
وجل: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ
كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}
[إبراهيم: 46].

وأما الأمثلة الفردية التي تبين معاني هذه القاعدة، فكثيرة في كتاب الله تعالى، لكن حسبنا أن نشير إلى بعضها، فمن ذلك:
1 ـ ما قصه الله تعالى عن مكر إخوة يوسف بأخيهم، فماذا كانت العاقبة؟ يقول
تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ
يَمْكُرُونَ}
[يوسف: 102] صحيح أن إخوته تابوا، لكن بعد أن آذوا أباهم
وأخاهم بأنواع من الأذى، فعاد مكرهم على غير مرادهم، وفاز بالعاقبة الحسنة،
والمآل الحميد من صبر وعفى وحلَم.

2 ـ وتأمل في قول الله تعالى عمن أرادوا كيداً بني الله عيسى؛: {وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
[آل عمران: 54]!

3 ـ ولما تحايل المشركون بأنواع الحيل لأذية نبينا صلى الله عليه وسلم، قال
الله عنهم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
[الأنفال: 30].

وأما في السنة، وفي التاريخ فكثيرٌ جداً، ومن قرأ التاريخ قراءة المتدبر
المتأمل، وجد من ذلك عبراً، وأدرك معنى هذه القاعدة القرآنية المحكمة:
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه}
.

ولهذا، ولما كان المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً، والكيدُ له
عظيماً، سلاه الله بآية عظيمة، تبعث على الثقة والطمأنينة، والأمل والراحة،
ليس له صلى الله عليه وسلم وحده، بل لكل داعية يسير على نهجه ممن قد يشعر
بكيد الكائدين ومكر الماكرين، فقال ـ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا
بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ* إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ}
[النحل: 127، 128].

"فالله حافظه من المكر والكيد، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في
دعوته لا يبتغي من ورائها شيئاً لنفسه، ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره،
ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة: {إن
الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}
ومن كان الله معه فلا عليه ممن
يكيدون وممن يمكرون"(3)، والمهم أن يحفظ سياج التقوى، ولا يقطع إحسانه إلى
الخلق، ثم ليبشر بعد ذلك ببطلان كيد الماكرين.

أيها القارئ المحب لكلام ربه:
لعلك تلاحظ أن المكر ـ في هذه القاعدة القرآنية: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه}
ـ لعلك تلاحظ أن المكر أضيف إلى السوء، وهذا
يوضح أن المكر من حيث هو لا يذم ولا يمدح إلا بالنظر في عاقبته، فإن كان
المكرُ لغاية صحيحة فهو ممدوح، وإلا فلا، ومن بلاغة البيان القرآني التعبير
بالحيق مع كلمة المكر، في قوله: (ولا يحيق)، فالعرب تقول: حاق به المكروه
يحيق به حيقاً، إذا نزل به وأحاط به، ولا يطلق إلا على إحاطة المكروه خاصة،
فلا تقول: حاق به الخير، بمعنى: أحاط به(4).

ولعلك تتأمل معي ـ أيها المستمع الكريم ـ في الحكمة من اتباع هذه القاعدة
القرآنية بقوله ـ: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَحْوِيلًا}
ليتبين أن هذه القاعدة القرآنية مطردة، وفي ذلك من
التحذير من مكر السوء ما فيه، لمن تدبر ووعى، كما سبق في ذكر الآيات
الكريمة الدالة على ذلك.

وإذا تقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإنه يدخل في هذه الآية
كل مكرٍ سيء،يقول العلامة ابن عاشور: مبيناً علة اطراد وثبات هذه القاعدة
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه}
:
"لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض،
والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض؛ لأن الإنسان مدني
بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضاً تنكر بعضهم لبعض،
وتبادروا الإضرار والإهلاك؛ ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يقع فيه؛
فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم، والله لا يحب الفساد، ولا ضر عبيده إلا
حيث تأذن شرائعه بشيء.
وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها، وقد قال الله _تعالى_: [وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ].

وفي كتاب ابن المبارك في "الزهد" بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "لا تمكر، ولا تُعن ماكراً فإن الله يقول: [ولا يحيق
المكر السيئ إلا بأهله]
".

ومن كلام العرب: من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً!.
فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية، ومعجزات قرآنية، ومعجزات نبوية خفية"(5).

أيها الممعن النظر:
وإذا أردنا أن ننظر في آثار هذه القاعدة {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه}
على أهلها في الدنيا والآخرة، فلنتأمل هذه
القصص التي ذكرها ربنا في كتابه عن أهل المكر بأوليائه والدعاة إلى سبيله،
فبالإضافة إلى ما سبق ذكره عن جملة من الأنبياء، نجد أمثلة أخرى لأتباعهم،
نجاهم الله فيها من مكر الأعداء، ومن ذلك:
ـ فهذا فرعون! كم كاد لبني إسرائيل لمّا آمنوا به! ومن جملتهم ذلك الرجل
الذي عرف بـ"مؤمن آل فرعون" الذي قصّ الله خبره في سورة غافر! تأمل قوله
تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ
فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ}
[غافر: 45، 46] فنجى الله المؤمن، وأما فرعون وجنوده
فهم الآن، بل منذ ماتوا وهم يعذبون وإلى يوم القيامة.

ـ وهذا الإمام البخاري: ـ صاحب الصحيح ـ كان كثير من أصحابه يقولون له: إن
بعض الناس يقع فيك! فيقول: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا} [النساء 76] ويتلو
أيضاً: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه} [فاطر: 43]،
فقال له أحد أصحابه: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك
ويبهتونك؟
فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض"، وقال صلى الله عليه وسلم: (من دعا على ظالمه، فقد انتصر)(6).

ـ وقد ذكر ابن القيم: أمثلةً تطبيقية وعملية من واقع الناس لهذه القاعدة:
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه} ـ في سياق حديثه عن
المتحايلين على الأحكام الشرعية، كالمتحايلين على أكل الربا ببعض
المعاملات، أو يحتالون على بعض الأنكحة، وأمثال هؤلاء، فقال:
"فالمحتال بالباطل مُعَاملٌ بنقيض قصده شرعاً وقَدَرَاً، وقد شاهد الناس
عيانا أنه من عاش بالمكر مات بالفقر، ولهذا عاقب الله ـ من احتال على إسقاط
نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها(7)، وعاقب من احتال على
الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير، وعاقب من احتال على أكل أموال الناس
بالربا بأن يمحق ماله، كما قال تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} فلا
بد أن يمحق مال المرابي ولو بلغ ما بلغ، وأصل هذا: أن الله سبحانه جعل
عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم،... إلى أن قال:
وهذا بابٌ واسعٌ جداً عظيمُ النفع، فمن تدبره يجده متضمناً لمعاقبة الرب
سبحانه من خرج عن طاعته بأن يعكس عليه مقصوده شرعاً وقدراً، دنياً وأخرى،
وقد اطردت سنته الكونية سبحانه في عباده بأن: من مكر بالباطل مكر به، ومن
احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خُدِعَ، قال الله تعالى: {إن المنافقين
يخادعون الله وهو خادعهم}
، وقال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه}
، فلا تجد ماكراً إلا وهو ممكورٌ به، ولا
مخادعا إلا وهو مخدوع ولا محتالا إلا وهو محتال عليه" انتهى كلامه، وبه
تنتهي هذه الوقفات المختصرات مع هذه القاعدة القرآنية الكريمة، ولم تنته
بعد وقفاتنا التي نريدها مع بقية القواعد، فإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى.

_______________
(1) ينظر في تحديدهم: التحرير والتنوير 12/73 في تفسير ابن عاشور لهذه الآية.
(2) التفسير الميسر (تفسير المجمع).
(3) في ظلال القرآن 4/499.
(4) ينظر: أضواء البيان 4/153.
(5) التحرير والتنوير 22/335_336.
(6) سير أعلام النبلاء (23 / 455).
(7) يشير بذلك إلى قصة أصحاب الجنة في سورة القلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأحد يناير 16, 2011 4:01 pm

القاعدة التاسعة عشرة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا
محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فحي هلا بكم في ملتقانا البديع: (قواعد قرآنية)، نعيش فيه مع قاعدة من
القواعد المحكمة في أبواب التعامل بين الخلق، الذين لا تخلو حياة كثير منهم
من بغي عدوان، سواء على النفس أو على ما دونها، تلكم هي القاعدة القرآنية
التي دل عليها قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة:
179].

وهذه الآية القاعدة القرآنية العظيمة جاءت بعد قوله ـ: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ
اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
ثم قال تعالى ـ مبيناً هذه
القاعدة العظيمة في باب الجنايات ـ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا
أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}
[البقرة: 178، 179]، ولنا مع
هذه القاعدة القرآنية المحكمة وقفات:

الوقفة الأولى:
إن من تأمل في واقع بلاد الدنيا عموماً ـ مسلمها وكافرها ـ فسيجد قلة القتل
في البلاد التي يُقتلُ فيها القاتل ـ كما أشار إلى ذلك العلامة الشنقيطي: ـ
وعلل ذلك بقوله: "لأن القصاص رادع عن جريمة القتل؛ كما ذكره الله في الآية
المذكورة آنفاً، وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة؛
لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأول، وأنه ينبغي أن
يعاقب بغير القتل فيحبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع، كله كلامٌ
ساقط، عارٍ من الحكمة؛ لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل، فإذا لم تكن
العقوبة رادعةً فإن السفهاء يكثر منهم القتل، فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة
القتل" انتهى كلامه.

الوقفة الثانية:
مع قوله سبحانه وتعالى في هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
، ذلك أن "الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة، فلا
تعادل عقوبة القتل في الردع والانزجار، ومن حكمة ذلك: تطمين أولياء القتلى
بأن القضاء ينتقم لهم ممن اعتدى على قتيلهم، قال تعالى: {ومن قتل مظلوما
فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً}[
الإسراء:33]
أي: لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم؛ لأن ذلك
يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس"(1).

الوقفة الثالثة:
مع تنكير كلمة (حياة) في هذه القاعدة القرآنية {ولكم في القصاص حياة}.
فهذا التنكير "للتعظيم، أي: في القصاص حياة لنفوسكم؛ فإن فيه ارتداعُ الناس
عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس؛ لأن أشد ما تتوقاه
نفوس البشر من الحوادث هو الموت، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت لأقدم
على القتل مستخفاً بالعقوبات كما قال سعد بن ناشب لما أصاب دماً وهربَ
فعاقبه أمير البصرة بهدم داره بها:
سأغسلُ عني العار بالسيف جالباً *** عليَّ قضاء الله ما كان جالبا
وأذهل عن داري، وأجعل هدمها *** لعرضيَ من باقي المذمة حاجبا
ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت *** يميني بإدراكك الذي كنت طالبا

ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر ـ كما كان عليه في الجاهلية ـ لأفرطوا في القتل
وتسلسل الأمر كما تقدم، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من
الجانبين"(2).

الوقفة الرابعة مع هذه القاعدة القرآنية {ولكم في القصاص حياة}:
هي مع ختم هذه القاعدة بقوله تعالى: {يا أولي الألباب} ففي ذلك "تنبيه على
التأمل في حكمة القصاص؛ ففي توجيه النداء إلى أصحاب العقول إشارة إلى أن
حكمة القصاص لا يدركها إلا أهل النظر الصحيح؛ إذ هو في بادئ الرأي كأنه
عقوبة بمثل الجناية؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا
رزية للوجهين المتقدمين.
ثم قال: {لعلكم تتقون} إكمالا للعلة، أي لأجل أن تتقوا، فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حد العدل والإنصاف"(3).

الوقفة الخامسة مع هذه القاعدة القرآنية {ولكم في القصاص حياة}:
أن هذه القاعدة العظيمة من جوامع الكلام وبليغِه، فاق ما كان سائراً مسرى المثل عند بعض المتأخرين(4) وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل).
وقد اشتغل جمع من البلاغيّين في تحليل هذه القاعدة القرآنية {ولكم في
القصاص حياة}
للبحث عن مواطن إيجازها المتقَن، ومقارنتِها بالمثل المشهور
الذي تكرر وتردد على ألسنة كثير من الأدباء، والكُتاب والصحفيينن ذلكم هو
قول العرب: (القتلُ أنفى للقتل) فزعم بعضهم أنها أفصح من هذه القاعدة التي
نحن بصدد الحديث عنها {في القصاص حياة}،

وقبل بيان المقارنة يحسن إيراد كلمة محررة ومتينة لأبي بكرٍ الباقلاني: حيث
يقول كلاماً، هو كالقاعدة في بين حال من يريد أن يقارن بين كلام الله
وكلام خلقه:
"فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مُرْمَدٍ(5) فصاحة القرآن،
وموقع بلاغته وعجيب براعته فما عليك منه! إنما يخبر عن نفسه، ويدل على
عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله" (6)!

أيها الإخوة:
وبالمقارنة بين ما نحن بصدده من هذه القاعدة القرآنية: {وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
وبين ذلك المثل: "الْقَتْلُ أنْفَى لِلْقَتل" ظهر ما
يلي:
(1) إنّ حروف القاعدة القرآنية: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أقل عدداً من عبارة العرب: "الْقَتْلُ أنْفَى للقتل".
(2) القاعدة القرآنية ذكرت "الْقِصَاصَ" ولم تقل القتل، فشملت كلَّ ما
تُقَابَلُ به الجناية على الأنفس فما دون الأنفس من عقوبة مُمَاثلة،
وحدّدَتِ الأمر بأنْ يكون عقوبة وجزاء لخطأ سابق، لا مجرد عدوان، وهذا عين
العدل.
أمّا عبارة العرب فقد ذكرت القتل فقط، ولم تقيّده بأن يكون عقوبة، ولم تُشِرْ إلى مبدأ العدل، فهي قاصرة وناقصة.
(3) القاعدة القرآنية {في القصاص حياة} نصَّتْ على ثبوت الحياة بتقرير حكم
القصاص، أما المثل العربي فذكر نَفْي القتل، وهو لا يَدُلُّ على المعنى
الذي يَدُلُّ عليه لفظ "حياة".
(4) القاعدة القرآنية خالية من عيب التكرار، بخلاف المثل العربي الذي تكررت فيه كلمة القتل مرتين في جملة قصيرة.
(5) القاعدة القرآنية صريحة في دلالتها على معانيها، مستغنية بكلماتها عن
تقدير محذوفات، بخلاف عبارة "العرب" فهي تحتاج إلى عدّة تقديراتٍ حتى
يَستقيم معناها، إذْ لا بُدَّ فيها من ثلاثة تقديرات، وهي كما يلي:
"القتلُ" قصَاصاً "أنْفَى من تركه "لِلقَتْلِ" عمْداً وعدواناً.
(6) في القاعدة القرآنية سَلاَسة، لاشتمالها على حروف متلائمة سهلة التتابع
في النطق، أمّا العبارة "العرب" ففيها تكرير حرف القاف المتحرِّك بين
ساكنين، وفي هذا ثقل على الناطق (7).

وبعد فإن لهذه المقارنة البلاغية الموجزة قصةً أختم بها حديثي في هذه
القاعدة القرآنية، وهي أن العلامو محمود شاكر: قرأ مقالةً لأحد الصحفيين
يقرر فيها أن عبارة "القتل أنفى للقتل" أبلغ من هذه القاعدة القرآنية
المحكمة: {ولكم في القصاص حياة}، فضاق صدر الشيخ محمود شاكر جداً، ووصف هذه
الكلمة بأنها كافرة، فكتب ـ وقتها ـ إلى الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي
يستحثه على الجواب عن هذه الدعوى المزيفة، يقول الشيخ محمود شاكر:: "غلى
الدم في رأسي حين رأيت الكاتب يلج في تفضيل قول العرب: "القتل أنفى للقتل"
على قول الله -تعالى- في كتابه الحكيم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
[البقرة: 179]، فذكرت هذه الآية القائلة: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}
[الأنعام: 121]... ففي عنقك أمانة
المسلمين جميعًا لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز
في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها؛ فإن هذه زندقة إن
تركت تأخذ مأخذها في الناس؛ جعلت البر فاجرًا، وزادت الفاجر فجورًا، هم
ذئاب الزندقة الأدبية التي جعلت همها أن تلغ ولوغها في البيان القرآني...
الخ كلامه".

فلما بلغ هذا الكلام الأديب الرافعي غضب غضبة مضرية، وانبرى للرد على هذه
الكلمة الآثمة في بضع صفحات من كتابه الرائع "وحي القلم"، لخصنا شيئاً منها
فيما ذكرته آنفاً، فجزاه الله خيراً، وغفر له، وإلى هنا ينتهي ما أردتُ
بيانه حول هذه القاعدة القرآنية الكريمة: {ولكم في القصاص حياة} وإلى لقاء
جديد بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

________________
(1) التحرير والتنوير (2 / 192).
(2) التحرير والتنوير 2/200.
(3) التحرير والتنوير 2/200، بتصرف واختصار.
(4) ينظر في بيان كون هذا المثل منقولاً ومترجماً: وحي القلم 3/407 - 410.
(5) أي من في عينيه رمدٌ، إشارة إلى عماه عن إبصار الحقيقة.
(6) نقلها الرافعي في وحي القلم: (3/399).
(7) ينظر ـ في بيان أوجه إعجاز هذه الآية الكريمة ـ: وحي القلم للرافعي
3/402 – 409، والبلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها (492) للميداني.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالإثنين يناير 17, 2011 10:24 am


القاعدة العشرون: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا
محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد:
فهذا حديث متجدد عن قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب العدل والجزاء،
ولتدبرها أثرٌ في فهم المؤمن لما يراه أو يقرأه في كتب التاريخ، أو كتاب
الواقع من تقلبات الزمن والدهر بأهله، سواء على مستوى الأفراد أم الجماعات،
إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}
[الحج: 18].

ولعل إيراد الآية الكاملة التي ذكرت فيها هذه القاعدة مما يجلي لنا أبرز
صور الإهانة التي تنزل الإنسان من عليائه، يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
[الحج: 18].

فهل أدركتَ معي ـ أخي ـ وأنت تستمع لهذه الآية الكريمة أن أعلى وأبهى وأجلى
صور كرامة العبد أن يوحّد ربه، وأن يفرده بالعبادة، وأن يترجم ذلك بالسجود
لربه، والتذللِ بين يدي مولاه، وخالقِه ورازقه، ومَنْ أمرُ سعادتِه ونجاته
وفلاحِه بيده سبحانه وتعالى، يفعلُ ذلك اعترافاً بحق الله، ورجاءً لفضله،
وخوفاً من عقابه؟!

وهل أدركتَ ـ أيضاً ـ أن غاية الهوان والذلّ، والسفول والضعة أن يستنكف
العبد عن السجود لربه، أو يشرك مع خالقه إلهاً آخر؟! وتكون الجبال الصم،
والشجر، والدواب البُهمُ، خيراً منه حين سجدت لخالقها ومعبودها الحق؟!

أيها الإخوة:
وإذا تبيّن هذا فإن هذه القاعدة القرآنية الكريمة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}
جاءت في سياق بيان من هم الذين يستحقون العذاب؟
إنهم الذين أذلوا أنفسهم بالإشراك بربهم، فأذلهم الله بالعذاب، كما قال
سبحانه وتعالى: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} فلا يجدون حينها من
يكرمهم بالنصر، أو بالشفاعة!

وتأمل ـ أيها المبارك ـ كيف جاء التعبير عن هذا العذاب بقوله: {ومن يهن
الله}
ولم يأت بـ(ومن يعذل الله) وذلك ـ والله أعلم ـ "لأن الإهانة إذلالٌ
وتحقيرٌ وخزيٌ، وذلك قدرٌ زائدٌ على ألم العذاب، فقد يعذب الرجل الكريم ولا
يهان" (1).

ثم تأمل كيف جاء التعبير عن ضد ذلك بقوله: (فما له من مكرم) فإن لفظ "الكرم
لفظ جامع للمحاسن والمحامد، لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام
معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام المحاسن، والكرم كثرة الخير ويسرته،...
والشيء الحسن المحمود يوصف بالكرم، قال تعالى: {أولم يروا إلى الأرض كم
أنبتنا فيها من كل زوج كريم}
[الشعراء: 7]، قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن،
والقرآن قد دل على أن الناس فيهم كريم على الله يكرمه، وفيهم من يهينه، قال
تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13]، وقال تعالى: {ومن يهن
الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء}
[الحج:18] (2)

أيها القارئ الكريم:
وإذا كان الشرك بالله هو أعظم صورةٍ يذل بها العبد نفسه، ويدسها في دركات
الهوان، فإن ثمةَ صوراً أخرى ـ وإن كانت دون الشرك ـ إلا أن أثرها في هوان
العبد وذله ظاهر بيّن: إنه ذل المعصية، وهوان العبد بسببها، يقول ابن
القيم: موضحاًً شيئاً من معاني هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَنْ
يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}
وهو يتحدث عن شيء من شؤم
المعاصي، وآثارها السيئة:
"ومنها: أن المعصية سببٌ لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم!.
وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}
! وإنْ عَظّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم
إليهم، أو خوفاً من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه...
إلى أن قال: وهو يتحدث عن بعض عقوبات المعاصي:
"أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما
هان عليه أمر الله، واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى
قدر خوفه من الله يخافه الناس، وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظم الناس
حرماته! وكيف ينتهك عبدٌ حرمات الله ويطمع أن لا ينهك الناس حرماته؟! أم
كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟! أم كيف يستخف بمعاصي
الله ولا يستخف به الخلق؟!

وقد أشار سبحانه إلى هذا ـ في كتابه ـ عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس
أربابها بما كسبوا، وغطي على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما
نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره، ولهذا قال تعالى ـ
في آية سجود المخلوقات له ـ: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ}
فإنهم لما هان عليهم السجود له، واستخفوا به، ولم يفعلوه أهانهم،
فلم يكن لهم من مكرم بعد أن أهانهم، ومن ذا يكرم من أهانه الله أو يهن من
أكرم... إلى أن قال:: ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف،
وتكسوه أسماء الذم والصغار، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمتقي
والمطيع... ونحوها، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء...،
وأمثالها فهذه أسماء الفسوق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان التي توجب غضب
الديان، ودخول النيران، وعيش الخزي والهوان، وتلك أسماء توجب رضى الرحمان،
ودخول الجنان، وتوجب شرف المتسمي بها على سائر أنواع الإنسان، فلو لم يكن
في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل ناهٍ
عنها، ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجباتها؛ لكان
في العقل أمرٌ بها ولكن لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا مقرب
لمن باعد، ولا مبعد لمن قرب، ومن يهن الله فماله من مكرم، إن الله يفعل ما
يشاء"(3) انتهى كلامه.

معشر القراء الكرام:
وفي كلمة ابن القيم الآنفة: "ومن ذا يكرم من أهانه الله، أو يهنْ من أكرم؟"
إشارة إلى معنى يفهم من هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَمَنْ يُهِنِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}
وهو أن من أكرمه ربه بطاعته، والانقيادِ
لشرعه ظاهراً وباطناً، فهو الأعز الأكرم، وإن خاله المنافقون أو الكفار
الأمر على خلاف ذلك، كما قال من طمس الله على بصائرهم من المنافقين
وأشباههم: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}
[المنافقون:
8] إي والله.. لا يعلمون من هم أهل العزة حقاً!

ألم يقل الله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران: 139]؟!
وكيف يشعر المؤمن بالهوان وسنده أعلى؟! ومنهجه أعلى؟! ودوره أعلى؟ وقدوته ج أعلى وأسمى؟!
فهل يعي ويدرك أهل الإيمان أنهم الأعزة حقاً متى ما قاموا بما أوجب الله عليهم؟

وأختم حديثي عن هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا
لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}
،بكلمة رائعة لشيخ الإسلام ابن تيمية: حيث يقول:
"الكرامة في لزوم الاستقامة، واللهُ تعالى لم يكرم عبده بكرامة أعظم من
موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة
أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {ألا إن أولياء الله لا
خوف عليهم ولا هم يحزنون}
" (4)، أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منهم،
وأن يكرمنا وإياكم بطاعته، ولا يذلنا ويهيننا بمعصيته، وإلى لقاء جديد بإذن
الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

_______________
(1) مجموع الفتاوى 15/367.
(2) مجموع الفتاوى 16/295.
(3) الجواب الكافي: (38 – 52) باختصار.
(4) التحفة العراقية في الأعمال القلبية: (12).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالسبت يناير 29, 2011 6:49 pm




القاعدة الحادية والعشرون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين)



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا
محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد:
فهذا مرفأ جديد إلى حلقة جديدة من هذه السلسلة الموسومة بـ(قواعد قرآنية)،
نعيش فيها مع قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل مع الخالق سبحانه
وتعالى والتعامل مع خلقه، هي قاعدة تمثل سفينةً من سفن النجاة، وركناً من
أركان الحياة الاجتماعية، وهي ـ لمن اهتدى بهديها ـ علامة خير، وبرهان على
سمو الهمة، ودليل على كمال العقل، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}
[التوبة: 119].

أيها الإخوة:
هذه القاعدة المحكمة جاءت تعقيباً على قصة جهاد طويل، وبلاء كبير في خدمة
الدين، والذب عن حياضه، قام به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي
الله عنهم،وذلك في خاتمة سورة التوبة ـ التي هي من آخر ما نزل عليه – صلى
الله عليه وسلم - قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ
الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ
تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا
أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 117، 119].

والمعنى: إن هؤلاء الذين تاب الله عليهم ـ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والثلاثة الذين خلفوا ـ هم أئمة الصادقين، فاقتدوا بهم.

وأنت ـ أيها المبارك ـ إذا تأملتَ مجيء هذه القاعدة القرآنية {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
بعد
هذه الآيات، أدركتَ أن الصدق أعمّ من أن يختصر في الصدق في الأقوال! بل هو
الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال، التي كان يتمثلها نبينا صلى الله عليه
وسلم في حياته كلها، قبل البعثة وبعدها.

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم صادق اللهجة، عف اللسان، أميناً وفيّاً
حافظاً للعهود قبل بعثته، عرف بالصادق الأمين، وكان ذلك سبباً في إسلام بعض
عقلاء المشركين، الذين كان قائلهم يقول: لم يكن هذا الرجل يكذب على الناس
أفتراه يكذب على الله؟!

أيها الإخوة:
كثيرٌ من الناس حينما يسمع هذه القاعدة القرآنية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
لا ينصرف ذهنه إلا
للصدق في الأقوال، وهذا في الحقيقة تقصير في فهم هذه القاعدة، وإلا لو
تأمل الإنسان سياقها لعلم أنها تشمل جميع الأقوال والأفعال والأحوال! كما
تقدم.

يا أهل القرآن!
إن للصدق آثاراً حميدة، وعوائد جليلة; وهو دليل على رجحان العقل، وحسن السيرة، ونقاء السريرة.
ولو لم يكن للصدق من آثار إلا سلامته من رجس الكذب، ومخالفة المروءة،
والتشبه بالمنافقين! فضلاً عما يكسبه الصدق من عزة، وشجاعة، تورثه كرامة،
وعزة نفس، وهيبةَ جناب، ومن تأمل في قصة الثلاثة الذين خلفوا أدرك حلاوة
الصدق ومرارة الكذب ولو بعد حين.
ومن تأمل في الآيات الواردة في مدح الصدق والثناء على أهله وجدَ عجبا عجاباً!

ولو أخذتُ في سرد الآيات الواردة فيه سرداً فقط لانقضى وقت الحلقة قبل أن
تنقضي الآيات، ولكن حسبنا أن نشير إلى جملة من الآثار التي دلّ عليها
القرآن للصدق وأهله في الدنيا والآخرة:
1. فالصادق سائر على درب الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الذين أثنى الله عليهم في غير ما آية بالصدق في الوعد والحديث.

2. والصادق معانٌ ومنصورٌ، ويسخر الله له من يدافع عنه من حيث لا يتوقع،
بل قد يكون المدافع خصماً من خصومه، تأمل في قول امرأة العزيز: {قَالَتِ
امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ
نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}
[يوسف: 51].

3. والصادق يسير في طريق لاحب إلى الجنة، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : "عليكم
بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل
يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا" أخرجه الشيخان(1)، وقد قال
الله عز وجل ـ مبيناً صفات أهل الجنة ـ: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ
وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}
[آل
عمران: 17].

4. وأهل الصدق هم الناجون يوم العرض الأكبر على ربهم، كما قال تعالى:
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيم}
[المائدة: 119].

5. والصادقون هم أهلٌ لمغفرة الله وما أعده لهم من الأجر والثواب
العظيم، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً
وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
[الأحزاب: 35].

وبعد هذا.. فإن من المحزن والمؤلم أن يرى المسلم الخرق الصارخ ـ في واقع
المسلمين ـ لما دلّت عليه هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
!
فكم هم الذين يكذبون في حديثهم؟ وكم هم الذين يخلفون مواعيدهم؟ وكم هم أولئك الذين ينقضون عهودهم؟
أليس في المسلمين من يتعاطى الرشوة ويخون بذلك ما اؤتمن عليه من أداء
وظيفته؟ أليس في المسلمين من لا يبالي بتزوير العقود، والأوراق الرسمية؟
وغير ذلك من صور التزوير؟
لقد شوّه ـ هؤلاء ـ وللأسف بأفعالهم وجهَ الإسلام المشرق، الذي ما قام إلا على الصدق!

وإنك لتعجب من مسلم يقرأ هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
! ومع
ذلك يمارس كثير من المسلمين الكذب مع وفرة النصوص الشرعية التي تأمر بالصدق
وتنهى عن الكذب!

ليت هؤلاء يتأملون هذا الموقف، الذي حدّث به أبو سفيان س قبل أن يسلم،
حينما كان في أرض الشام، إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
هرقل، فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين
يديه، فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقلت: أنا،
فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه، فقال له: قل
لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو
سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت(2).

فتأمل ـ أيها المؤمن ـ كيف حاذر هذا الرجل الذي كان مشركاً يومئذ من الكذب؛
لأنه يراه عاراً وسُبةً لا تليق بالرجل الذي يعرف جلالة الصدق، وقبح
الكذب؟! إنها مروءة العربي، الذي كان يعد الكذب من أقبح الأخلاق!
ولهذا لما سئل ابن معين: عن الإمام الشافعي قال: دعنا، والله لو كان الكذب حلالاً لمنعته مروءته أن يكذب(3)!
وجاء في ترجمة الحافظ إسحاق بن الحسن الحربي (ت: 284) أن الإمام إبراهيم
الحربي سئل عنه، فقال: ثقة، ولو أن الكذب حلال ما كذب إسحاق(4)!
وكان إبراهيم الحربي (ت: 285) يقول في الإمام المحدث هارون الحمال: لو أن الكذب حلال لتركه هارون تنزهاً(5).
ولله درُّ الإمامِ الأوزاعي: أنه قال: والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت!

فأين من هذا أولئك الذين استمرأوا الكذب، بل وامتهنوه، ولم يكتفوا بهذا بل
روّجوا شيئاً من عادات الكفار في الكذب، كما هو الحال فيما يسمى بكذبة
إبريل! ويزعم بعضهم أن تلك كذبة بيضاء! وما علموا أن الكذب كله أسود! إلا
ما استثناه الشرع المطهر.

ويقال: لو لم يكن من خسارة يجنيها هؤلاء الذين يكذبون إلا أنهم يتخلفون
بكذبهم هذا عن ركب المؤمنين الصادقين، الذين عناهم الله بهذه القاعدة
القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}
.

ما أحرانا معشر الآباء والمربين، أن نربي أجيالنا على هذا الخلق العظيم، وبغض الكذب، وأن نكون لهم قدوات حية يرونها بأعينهم.

يقول الأستاذ الأديب الكبير محمد كرد علي:
"لو عَمَدنا إلى الصدق نجعله شعارنا الباطنَ والظاهر في عامة أحوالنا؛
لوفرنا على أنفسنا وعلى من يحتفون بنا وعلى القائمين بالأمر فينا أوقاتاً
وأموالاً ولغواً وباطلاً، ولعشنا وأبناءنا سعداء لا نقلق ونَرَوّع، ممتعين
بما نجني، مباركاً لنا فيما نأخذ ونعطي، ولعشنا في ظل الشرف، وتذوقنا معنى
الإنسانية، ونَعِمْنا بالقناعة، وعَمّنا الرضى"(6). انتهى، والحمد لله رب
العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_______________
(1) البخاري ح ()، ومسلم ح ().
(2) صحيح البخاري ح (؟)، وصحيح مسلم ح (74).
(3) لسان الميزان 5/416.
(4) تاريخ بغداد (6/382).
(5) تاريخ بغداد (14/22) وفي النص خلل، صحح من تذكرة الحفاظ 2/478.
(6) أقوالنا وأفعالنا (178).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأحد يناير 30, 2011 12:38 pm


القاعدة الثانية والعشرون: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين)


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا
محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه حلقة جديدة من حلقات هذه السلسة المباركة ـ إن شاء الله ـ (قواعد قرآنية
نعيش فيها مع قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل مع الخالق سبحانه
وتعالى والتعامل مع خلقه، هي قاعدة وملاذٌ لمن تواجه أعمالهم بعدم
التقدير، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين}[يوسف: 90].

وهذه القاعدة جاءت في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وذلك حين دخل عليه إخوته فقالوا: {يَا
أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ
مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ
يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ
بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ
لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
} [يوسف: 88 - 90].

أيها الإخوة:
ما أكثر ما نحفظ تعريف التقوى، بل قد يحفظ بعضنا عدة تعاريف لها وللصبر،
ويحفظ تقسيمات الصبر، ثم يفشل أحدنا، أو يقع منه تقصير ظاهر في تطبيق هذه
المعاني الشرعية كما ينبغي عند وجود المتقضي لها.
ولستُ أعني بذلك العصمة من الذنب، فذلك غير مراد قطعاً، وإنما أقصد أننا
نخفق أحياناً ـ إلا من رحم الله ـ في تحقيق التقوى أو الصبر إذا جد الجد،
وجاء موجبهما.

كلنا ـ أيها الإخوة ـ يحفظ أن التقوى هي فعل أوامر الله، واجتناب نواهيه.
وكلنا يدرك أن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة، وحبس للنفس على مراد الله
ورسوله، ولكن الشأن في النجاح في تطبيق هذين المعنيين العظيمين في أوانهما.

ولنا أن نتساءل ـ أيها الإخوة ـ هنا عن سر الجمع بين التقوى والصبر في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
والجواب: أن ذلك ـ والله أعلم ـ لأن أثرالتقوى في فعل المأمور، وأما الصبر فأثره في الأغلب في ترك المنهي(1).

أيها القراء الأكارم:
إن لهذه القاعدة القرآنية الجليلة تطبيقاتٍ كثيرة في حياة المؤمن، بل وفيما يقرأه المسلم في كتاب ربه، ومن ذلك:
1 ـ ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية: تعليقاً
على هذه القاعدة {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} في سورة يوسف صلى الله عليه وسلم:
"ثم إن يوسف ابتلي بعد أن ظُلِمَ بمن يدعوه إلى الفاحشة، ويراوده عليها،
ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك، فاستعصم واختار السجن على الفاحشة، وآثر
عذاب الدنيا على سخط الله، فكان مظلوماً من جهة من أحبه لهواه، وغرضِه
الفاسد... ثم تكلم على محنته مع إخوته، وكيف أنه تعرض لنوعين من الأذى
فقابلهما بالتقوى والصبر:

أما الأذى الأول: فهو ظلم إخوته له، الذين أخرجوه من انطلاق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير اختياره.

وأما الأذى الثاني: فهو ما تعرض له من ظلم امرأة العزيز، التي ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوساً مسجوناً باختياره.

ثم فرق الشيخ: بين صبره على أذى إخوته، وصبره على
أذى امرأة العزيز، وقرر أن صبره على الأذى الذي لحقه من امرأة العزيز أعظم
من صبره على أذى إخوته؛ لأن صبره على أذى إخوته كان من باب الصبر على
المصائب التي لا يكاد يسلم منها أحد، وأما صبره على أذى امرأة العزيز فكان
اختيارياً؛ واقترن به التقوى، ولهذا قال يوسف: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

ثم قال شيخ الإسلام ـ مبيناً اطراد هذه القاعدة القرآنية ـ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فقال:
"وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه، وطلب منه الكفر
أو الفسوق أو العصيان ـ وإن لم يفعل أوذي وعوقب ـ اختار الأذى والعقوبة على
فراق دينه: إما الحبس وإما الخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين حين اختاروا
فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون.

وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبراً
اختيارياً، فإنه إنما يُؤذى لئلا يفعل ما يفعله باختياره، وكان هذا أعظم من
صبر يوسف؛ لأن يوسف إنما طلب منه الفاحشة، وإنما عوقب ـ إذا لم يفعل ـ
بالحبس، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طلب منهم الكفر، وإذا لم يفعلوا
طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه، وأهون ما عوقب به الحبس... إلى أن قال:
فكان ما حصل للمؤمنين من الأذى والمصائب هو باختيارهم طاعة لله ورسوله لم
يكن من المصائب السماوية التي تجري بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف لا
من جنس التفريق بينه وبين أبيه وهذا أشرف النوعين وأهلها اعظم بدرجة وإن
كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه
"(2).

2 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}:
تربيةُ النفس على التقوى والصبر على ما يسمى بعشق الصور، الذي أفسد قلوب
فئام من الناس، بسبب تعلق قلوبهم بتلك الصور، سواء كانت صوراً حية، أم
ثابتة.
ولقد عظمت الفتنة بهذه الصور في عصرنا هذا، الذي لم تعرف الدنيا عصراً أعظم
منه في انتشار الصورة، والاحتراف في تصويرها، والتفنن في تغيير ملامحها،
وتَيّسر الوصول إلى الصور المحرمة منها وغير المحرمة، عن طريق الإنترنت،
والجوال، وغيرها من الوسائل.

فعلى المؤمن الناصح لنفسه أن يتقي ربه، وأن يجاهد نفسه في البعد عن هذا
المرتع الوخيم ـ أعني تقليب النظر في الصور المحرمة ـ وأن يوقن أن ما يقذفه
الله في قلبه من الإيمان والنور والراحة والطمأنينة سيكون أضعاف ما يجده
من لذة عابرة بتلك الصور، ومن أراد أن يعرف مفاسد هذا الباب ـ أعني عشق
الصور ـ فليقرأ أواخر كتاب العلامة ابن القيم: "الجواب الكافي" فقد أجاد وأفاد.

وليتذكر المبتلى بالعشق "أنه إذا عف عن
المحرمات نظراً وقولاً وعملاً، وكتم ذلك، فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك
كلامٌ محرم: إما شكوى إلى المخلوق، وإما إظهار فاحشة، وإما نوعُ طلبٍ
للمعشوق، وصَبَرَ على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى ما في قلبه من ألم
العشق، كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة، فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر،
و{مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}" (3).

3 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {إِنّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
أن الإنسان قد يبتلى بحُساد يحسدونه على ما آتاه الله من فضله، وقد يجد من
آثار هذا الحسد ألواناً من الأذى القولي أو الفعلي، كما وقع لأحد ابني آدم
حين حسد أخاه؛ لأن الله تقبل قربانه ولم يتقبل قربان أخيه، وكما وقع ليوسف
مع إخوته، وقد يقع هذا من المرأة مع ضرتها، أو من الزميل مع زميله في
العمل.

وهذا النوع من الحسد، يقع غالباً بين المتشاركين في رئاسة أو مال أو عمل
إذا أخذ بعضهم قسطاً من ذلك وفات الآخر؛ ويكون بين النظراء؛ لكراهة أحدهما
أن يفضل الآخر عليه (4).

فعلى من ابتلي بذلك أن يتذكر هذه القاعدة القرآنية: {إِنّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، وليتذكر ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}.

4 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية العظيمة:
ما تكرر الحديث عنه في سورة آل عمران في ثلاثة مواضع، كلها جاءت بلفظ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا}.
الأول والثاني منهما: في ثنايا الحديث عن غزوة أحد، يقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[آل عمران: 120]، والثاني: في قوله سبحانه وتعالى: {إِذْ
تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِين} [آل عمران:
124، 125].


والموضع الثالث: في أواخر آل عمران ـ في
سياق الحديث عن شيء من المنهج القرآني في التعامل مع أذى الأعداء من
المشركين وأهل الكتاب ـ فقال سبحانه وتعالى: {لَتُبْلَوُنَّ
فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[آل
عمران: 186].


وهذه مواضع جديرة بالتأمل والتدبر، وأحرف هذه الحلقات لا تساعد على التوسع فيها، فأوصي بالرجوع إليها وتدبرها، وتأملها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

______________
(1) جامع الرسائل لابن تيمية (1/38).
(2) مجموع الفتاوى 10/121- 123 بتصرف واختصار.
(3) مجموع الفتاوى 10/ 133 بتصرف واختصار.
(4) ينظر: مجموع الفتاوى 10/ 125-126
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء فبراير 09, 2011 11:45 am


القاعدة الثالثة والعشرون: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا
محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فهذا ظل من ظلال حلقات هذا البرنامج نتفيأه عند قاعدة من القواعد القرآنية
التي حفل بها كتاب ربنا عز وجل، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول
الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189].

وهذه القاعدة القرآنية جاءت ضمن سياق الحديث عن عادة من عادات أهل
الجاهلية، الذين إذا أحرموا، لم يدخلوا البيوت من أبوابها، تعبدا بذلك،
وظنا أنه بر، فأخبر الله أنه ليس ببر؛ لأن الله تعالى، لم يشرعه لهم، كما
ثبت سبب هذا النزول في الصحيحين من حديث البراء رضي الله عنه.

قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ
الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ
مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[البقرة: 189].

ولئن كان سبب النزول الذي عالج ذلك الخطأ من أجلى وأظهر الصور التي عالجتها
هذه القاعدة، فإن ثمة تطبيقات أخرى واسعة لهذه القاعدة القرآنية الجليلة {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، تظهر لمن تتبع كلام العلماء عنها، أو في تطبيقاتهم العملية لها، ومن ذلك:
1 ـ عبادة الله تعالى، فإنها الطريق الموصل
إلى الله عز وجل، ومن أراد أن يصل إلى الله، فعليه أن يسلك الطريق الموصل
إليه سبحانه وتعالى، ولا يكون ذلك إلا بواسطة الطريق الذي سنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم.

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله:
"فالوصول إلى الله وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب
الهدى من غيره هو عين الضلال، وكيف يوصل إلى الله من غير الطريق التي جعلها
هو سبحانه موصلة إليه؟ ودالة لمن سلك فيها عليه؟ بعث رسوله بها مناديا،
وأقامه على أعلامها داعيا، وإليها هاديا، فالباب عن السالك في غيرها مسدود،
وهو عن طريق هداه وسعادته مصدود، بل كلما ازداد كدحاً واجتهاداً: ازداد من
الله طرداً وإبعاداً
"(1).

ويؤكد ذلك العلامة السعدي رحمه الله، في تعليقه على هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} فيقول: "وكل
من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله، فهو متعبد ببدعة، وأمرهم أن
يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم، التي هي قاعدة من قواعد
الشرع"
(2).

2 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} أنه:
"يؤخذ من عمومها اللفظي والمعنوي أن كل مطلوب من
المطالب المهمة ينبغي أن يؤتى من بابه، وهو أقرب طريق ووسيلة يتوصل بها
إليه، وذلك يقتضي معرفة الأسباب والوسائل معرفة تامة؛ ليسلك الأحسن منها
والأقرب والأسهل، والأقرب نجاحاً، لا فرق بين الأمور العلمية والعملية، ولا
بين الأمور الدينية والدنيوية، ولا بين الأمور المتعدية والقاصرة، وهذا من
الحكمة"
(3).

3 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة {وَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} إغلاقها لباب الحيل على الأحكام الشرعية،
إلا فيما أذن فيه الشرع؛ ذلك أن المتحايل على الشريعة لم يأت الأمر من
بابه، فخالف بذلك ما دلت عليه هذه القاعدة المحكمة.

يقول ابن القيم رحمه الله مبيناً شناعة فعل هؤلاء المتحايلين، الذين تفننوا في هذا الباب:
"فاستبيحت بحيلهم الفروج، وأخذت بها الأموال من
أربابها فأعطيت لغير أهلها، وعطلت بها الواجبات، وضيعت بها الحقوق، وعجّت
الفروج والأموال والحقوق إلى ربها عجيجاً، وضجت مما حل بها إليه ضجيجاً،
ولا يختلف المسلمون أن تعليم هذه الحيل حرام، والإفتاء بها حرام، والشهادة
على مضمونها حرام، والحكم بها مع العلم بحالها حرام"
(4)انتهى.

فإذا تبين ذلك، فقارن ـ أيها الكريم ـ كم هم الذين وقعوا في هذا المرتع
الوخيم؟! ممن نصبوا أنفسهم للإفتاء في بعض المنابر الإعلامية، أو في بعض
المواقع، وساعدهم على ذلك تراكض كثير من الناس في هذا الباب، وأدنى نظرة في
الواقع، تبين أن الأمر جلل، والله المستعان.

4 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}:
في باب طلب العلم شرعياً كان أم غير شرعي، وكذلك في طلب الرزق، فإن "كل من
سلك طريقاً وعمل عملاً، وأتاه من أبوابه وطرقه الموصلة إليه، فلا بد أن
يفلح وينجح ويصل به إلى غايته، كما قال تعالى: { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا}[البقرة: 189]، وكلما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر، وتعين
البحث التام عن أمثل وأقوم الطرق الموصلة إليه"(5).

وما أجمل ما قاله قيس بن الخطيم:
إذا ما أتيت العزّ من غير بابه *** ضللتَ، وإن تقصد من الباب تهتد(6).

5 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}:
هو الحديث مع الناس، فإن الآية ترشد إلى أن المؤمن عليه أن يسلك الطريقة
المناسبة في الحديث، فيعرف الموضوع المناسب الذي يحسن طرقُه، والوقت
الملائم، ويعرف طبيعة الشخص أو الناس الذين يتحدث إليهم، فإن لكل مقام
مقالاً، ولكل مجال جدالاً، ولكل حادثة مقاماً.
وعلى هذا فإذا أراد الإنسان أن يخاطب شخصاً كبير المنزلة في العلم أو
الشرف، فلا يليق أن يخاطبه بما يخاطب سائر الناس؛ والحكمة في هذا هي
المدار، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.

6 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة القرآنية: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}:
ما أشار إليه ابن الجوزي في كتابه الماتع "صيد الخاطر" حيث يقول رحمه الله:
"شكا لي رجل من بغضه لزوجته ثم قال: ما أقدر على فراقها لأمور: منها كثرة
دينها علي، وصبري قليل، ولا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى، وفي كلمات
تعلم بغضي لها.
فقلت له: هذا لا ينفع وإنما تؤتى البيوت من أبوابها، فينبغي أن تخلو بنفسك،
فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك، فتبالغ في الاعتذار والتوبة، فأما
الضجر والأذى لها فما ينفع، كما قال الحسن البصري عن الحجاج بن يوسف: عقوبة
من الله لكم، فلا تقابلوا عقوبته بالسيف، وقابلوها بالاستغفار.

واعلم أنك في مقام مبتلى، ولك أجر بالصبر وعسى أن تكرهوا شيئاً، وهو خير
لكم، فعامل الله سبحانه بالصبر على ما قضى، واسأله الفرج، فإذا جمعت بين
الاستغفار وبين التوبة من الذنوب، والصبر على القضاء، وسؤال الفرج، حصلت
ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها، ولا تُضَيّع الزمان بشيء لا ينفع،
ولا تحتل ظاناً منك أنك تدفع ما قدر... وأما أذاك للمرأة فلا وجه له،
لأنها مسلطة فليكن شغلك بغير هذا.
وقد روي عن بعض السلف أن رجلاً شتمه فوضع خده على الأرض وقال: اللهم اغفر
لي الذنب الذي سَلّطَتَ هذا به علي"(7) انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله.

والغرض الذي أردتُ منه ذكر هذه القصة: أن هذا الإمام الواعظ استخدم هذه
القاعدة القرآنية {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} في علاج مشكلة
هذا الرجل الاجتماعية، وما أكثر هذا النوع من المشاكل، لكن ما أقل من
يستعمل قواعد القرآن، وهداياته في علاج مشاكل الناس الاجتماعية، إما
تقصيراً في فهم هداياته، أو قصوراً في ذلك، والواجب علينا أن ننطلق في
إصلاح مشاكلنا كلها مهما تنوعت من كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه
وسلم، وأن نعتقد ذلك يقيناً؛ لأن الله تعالى يقول: {إن هذا القرآن يهدي
للتي هي أقوم} في كل شيء: في أمر العقائد، وأحكام الحلال والحرام، والقضايا
الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، ولكن الشأن فينا نحن، وفي تقصيرنا في
تطلب حل مشاكلنا من كتاب ربنا تعالى، نسأل الله تعالى أن يعيننا على فهم
كتابه، والاهتداء بهديه، والاستنارة بنوره، وإلى لقاء جديد بإذن الله،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

_________________
(1) مقدمة كتابه "تهذيب السنن" 1/3.
(2) تفسير السعدي: (88)، وقد نبه على اطراد هذه القاعدة: شيخنا محمد العثيمين رحمه اله في شرحه على البخاري.
(3) تيسير اللطيف المنان (45).
(4)إعلام الموقعين عن رب العالمين - (3 / 372).
(5) القواعد الحسان: (3).
(6) جمهرة الأمثال للعسكري (89).
(7) صيد الخاطر: (303).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الحب في الله
.
.
الحب في الله


عدد المساهمات : 648

سلسلة قواعد قرانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: سلسلة قواعد قرانية   سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالإثنين مارس 14, 2011 10:50 am

القاعدة الرابعة والعشرون: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا
محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا ظل من ظلال حلقات هذا السلسلة المباركة؛ لنتوقف قليلاً عند قاعدة من
القواعد القرآنية التي حفل بها كتاب ربنا عز وجل، تلكم هي القاعدة القرآنية
التي دل عليها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

وهذه الآية الكريمة جاءت في ختام سورة العنكبوت، والتي افتتحت بقوله تعالى: {الم
(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا
يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ}
[العنكبوت: 1 - 3].

وكأن ختام سورة العنكبوت بهذه القاعدة القرآنية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}
هو جواب عن التساؤل الذي قد يطرحه المؤمن ـ وهو يقرأ صدر سورة العنكبوت
التي ذكرنا مطلعها آنفاً ـ تلك الكلمات العظيمة ـ التي تقرر حقيقة شرعية
وسنة إلهية ـ في طريق الدعوة إلى الله تعالى، وذلك السؤال هو: ما المخرج من تلك الفتن التي حدثتنا عنها أول سورة العنكبوت؟! فيأتي الجواب في آخر السورة، في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فلا بد من الجهاد ـ بمعناه العام ـ ولا بد من الإخلاص، عندها تأتي الهداية، ويتحقق التوفيق بإذن الله.

ولا بد لكل من أراد أن يسلك طريقاً أن يتصور صعوباته؛ ليكون على بينة من
أمره، وهكذا هو طريق الدعوة إلى الله، فلم ولن يكون مفروشاً بالورود
والرياحين، بل هو طريق "تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار
الخليل, وأضجع للذبح إسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع
سنين"(1).
أتدري لماذا أيها القارئ الكريم؟

لأن "الإيمان ليس كلمة
تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر،
وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا. وهم لا يتركون لهذه
الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم
خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة
العالقة به وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه وكذلك تصنع
الفتنة بالقلوب"(2).

"فيا من نصبت نفسك للدعوة، وأقمت نفسك مقام الرسل
الدعاة الهداة تحمَّل كلَّ ما يلاقيك من المحن بقلب ثابت، وجأش رابط، ولا
تزعزعنَّك الكروب؛ فإنها مربِّية الرجال، ومهذِّبة الأخلاق، ومكوِّنة
النفوس.


وإن رجلاً لم تعركه الحوادث، ولم تجرِّبه البلايا لا يكون رجل إصلاح ولا
داعي خَلْقٍ إلى حقٍّ؛ فوطِّن النفس على تحمُّل المكروه، وابذل كل ما
تستطيع من قوة ومال يهدك الله طريقاً رشداً، ويصلح بك جماعات بل أمماً [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]"(3).

أيها القراء الكرام:
وإذا تبينت صلة هذه القاعدة القرآنية المذكورة في آخر سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}
ـ بأول السورة، فإن دلالات هذه القاعدة في ميدان الدعوة كبيرة ومتسعة
جداً، وهي تدل بوضوح على أن من رام الهداية والتوفيق ـ وهو يسير في طريق
الدعوة ـ فليحقق ذينك الأصلين الكبيرين اللذين دلّت عليهما هذه القاعدة:
1 ـ أما الأصل الأول: فهو بذل الجهد والمجاهدة في الوصول إلى الغرض الذي ينشده الإنسان في طريقه إلى الله تعالى.

2 ـ والأصل الثاني هو: الإخلاص لله، لقوله
ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} فليس جهادهم من أجل نصرة ذات، ولا
جماعة على حساب أخرى، وليس من أجل لعاعة من الدنيا، أو ركض وراء كرسي أو
منصب، بل هو جهادٌ في ذات الله تعالى.

وإنما نُبّه على هذا الأصل ـ وهو الإخلاص ـ مع كونه شرطاً في كل عمل، فإن
السر ـ والله أعلم ـ لأن من الدعاة من قد يدفعه القيام بالدعوة، أو بأي عمل
نافع، الرغبة في الشهرة التي نالها الداعية الفلاني، أو يدفعه نيل ثراء
ناله المتحدث الفلاني.. فجاء التنبيه على هذا الأصل الأصيل في كل عمل صالح.

وثمة سرٌّ آخر ـ والله أعلم ـ في التنبيه على هذا الأصل، وهو: أن
الإنسان قد يبدأ مخلصاً، ثم لا يلبث أن تنطفئ حرارة الإخلاص في نفسه كلما
لاح أمام ناظريه شيء من حظوظ النفس، والأثرة، أو التطلع إلى جاه، والرغبة
في العلو والافتخار، أو الانتصار.


"والعلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان،
وإذا قلّت تركت به ثُلماً شتى، ينفذ منها الشيطان" (4)، لذا ليس غريباً أن
يأتي التوكيد على هذا الأصل الأصيل في هذا المقام العظيم: مقام الجهاد
والمجاهدة.

وإذا تقرر أن السورة مكية ـ على القول الصحيح من أقوال المفسرين ـ وهو الذي
لم تجب فيه بعدُ شعيرة الجهاد بمعناه الخاص ـ وهو قتال المشركين لإعلاء
كلمة الله ـ فإن ثمة معنى كبيراً تشير إليه هذه القاعدة: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وهو أن من أبلغ صور
الجهاد: الصبر على الفتن بنوعيها: فتن السراء وفتن الضراء، والتي أشارت
أوائل سورة العنكبوت إلى شيءٍ منها.

أيها المتأمل الكريم:
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}
دلت على شيءٍ آخر، كما يقول ابن القيم:: "وهو أن أكمل الناس هدايةً أعظمهم
جهاداً، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد
الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى
جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد... إلى أن قال::
ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطناً، فمن
نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نصرتْ عليه نُصِرَ عليه عدوُه" (5).

وفي كلمات الأعلام من سلف هذه الأمة، والتابعين لهم بإحسان ما يوسع دلالة هذه القاعدة:
فهذا الجنيد: يقول ـ في تعليقه على هذه القاعدة القرآنية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ـ:
والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة؛ لنهدينهم سبل الإخلاص.
ولأهل العلم نصيب من هذه القاعدة، يقول أحمد بن أبي الحواري: حدثني عباس بن أحمد ـ في قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} قال: الذين يعملون بما يعلمون، نهديهم إلى ما لا يعلمون.

وهذا الذي ذكره هذا العالم الجليل هو معنى ما روي في الأثر: من علم بما
عمل، ورّثه الله علم ما لم يعمل، وشاهد هذا في كتاب الله: {وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: 17].
وكان عمر بن عبدالعزيز: يقول: "جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا ولو علمنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا (6).

وفي واقع المسلمين أحوال تحتاج إلى استشعار معنى هذه القاعدة القرآنية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}:
فمن له والدان كبيران مريضان، بحاجة أن يستشعر هذه القاعدة..
ومن سلك طريق طلب العلم، فطال عليه بعض الشيء بحاجة أن يتأمل معاني هذه القاعدة..
ومن فرّغ جزءً من وقته لتربية النشء، والشباب، أو لتعليم أبناء وبنات المسلمين كتابَ الله عز وجل ـ وقد دبّ عليه الفتور ـ هو بحاجة ماسّة ليتدبر هذه القاعدة..

وبالجملة، فكلُّ من نصب نفسه لعمل صالح، سواء كان قاصراً أم متعدياً، فعليه
أن يتدبر هذه القاعدة كثيراً، فإنها بلسمٍ شافٍ في طريق السائرين إلى
ربهم، ويوشك المؤمن أن ينسى كلَّ ما واجهه من تعب ونصب، إذا وضع قدمه على
أول عتبة من عتابات الجنة، جعلني الله وإياكم ـ ووالدينا وذرياتنا ـ من
أهلها، ومن الدعاة إلى دخولها.

_________________
(1) الفوائد: (42).
(2) في ظلال القرآن.
(3) الكلمة للمنفلوطي، نقلاً عن مقالات لكبار كتاب العربية للدكتور محمد الحمد ـ وفقه الله ـ (1 / 213).
(4) خلق المسلم للغزالي: (66).
(5) الفوائد: (59).
(6) درء التعارض 4/358


عدل سابقا من قبل الحب في الله في الإثنين مارس 14, 2011 10:56 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
سلسلة قواعد قرانية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» قواعد النوم
» mيف تكتب اية قرانية في word 2007 مع شرح الخطوات
» كيف تكتب اية قرانية في word 2007 مع شرح الخطوات
» قواعد الإملاء
» قواعد علم النحو

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
البوابة الرسمية للأساتذة بالجزائر :: المنتدى الإسلامي :: العقيدة الإسلامية الصحيحة-
انتقل الى:  
المواضيع الأخيرة
» قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت حجة الوداع
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأحد يناير 31, 2016 4:20 pm من طرف fatiha

»  امتحانان تجريبيان لغة + رياضيات+ فرنسية مع التصحيح س 5
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالسبت مارس 28, 2015 3:42 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» سلسلة تمارين من إعداد الأستاذ عبد الرزاق زروقي حول الدوال العددية للسنة الثالثة ثانوي بكالوريا 2015
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 10:20 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» سلسلة تمارين من إعداد الأستاذ بك علي حول الهندسة الفضائية للسنة الثالثة ثانوي بكالوري
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 10:18 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» سلسلة تمارين من إعداد الأستاذ حول الدوال الأسية للسنة الثالثة ثانوي بكالوريا 2015
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 9:58 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» سلسلة تمارين من إعداد الأستاذ بك علي حول الدوال للسنة الثالثة ثانوي بكالوريا 2015
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 9:56 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» تمارين من إعداد الأستاذ بك علي حول الأعداد المركبة والتحويلات النقطية ثالثة ثانوي
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 9:54 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» تمارين تطبيقية رائعة حول الدالة الأسية للسنة الثالثة ثانوي بكالوريا 2015
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 9:52 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» 28تمرين و 14 مسائل في الدالة االوغاريتمية للسنة الثالثة ثانوي بكالوريا 2015
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 9:50 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» مطويات كليك ملخصة لدروس الرياضيات للسنة الثالثة ثانوي بكالوريا 2015
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 9:47 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» 18تمرين و 10 مسائل في الدالة الأسية للسنة الثالثة ثانوي بكالوريا 2015
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 9:44 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» سلسلة تمارين من إعداد الأستاذ عبد الرزاق زروقي حول دراسة خصائص المنحنيات
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء مارس 11, 2015 9:41 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» الوحدة3:فعل الأرض على جملة ميكانيكية
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأحد مارس 08, 2015 4:23 pm من طرف fatiha

» حلول تمارين الكتاب المدرسي رياضيات أولى ثانوي علوم + آداب
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالجمعة مارس 06, 2015 1:05 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» إجابة العمل المخبري2:قياس قيم أفعال مختلغة
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالسبت فبراير 28, 2015 3:32 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» اين انتم ياااااااااساتذة؟؟؟
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالسبت فبراير 28, 2015 3:30 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» عمل مخبري2:قياس قيم أثقال مختلفة
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالسبت فبراير 28, 2015 3:29 pm من طرف الاستاذ ابراهيم

» الدارة الكهربائية
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالإثنين فبراير 09, 2015 3:49 pm من طرف fatiha

» التوتر والتيار الكهربائيان المتناوبان
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالأربعاء يناير 28, 2015 7:31 pm من طرف fatiha

» الاختبار الثاني في مادة التربية الإسلامية
سلسلة قواعد قرانية Icon_minitimeالثلاثاء يناير 27, 2015 3:56 pm من طرف لحن الامل

لايك وفلاو
سلسلة قواعد قرانية Fb110
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية reddit      

قم بحفض و مشاطرة الرابط البوابة الرسمية للأساتذة بالجزائر على موقع حفض الصفحات
سحابة الكلمات الدلالية
ملخصات مقترحة لدروس والتربية المدنية للسنة مواضيع والجغرافيا التاريخ شاملة الرابعة متوسط