:قرآن: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3) [اللغةا لكوثر فوعل من الكثرة و هو الشيء الذي من شأنه الكثرة و الكوثر الخير الكثير و الإعطاء على وجهين إعطاء تمليك و إعطاء غير تمليك و إعطاء الكوثر إعطاء تمليك كإعطاء الأجر و أصله من عطا يعطو إذا تناول و الشانىء المبغض و الأبتر أصله من الحمار الأبتر و هو المقطوع الذنب و في حديث زياد أنه خطب خطبته البتراء لأنه لم يحمد الله فيها و لم يصل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
[الإعراب «و انحر» مفعوله محذوف أي و انحر أضحيتك كما حذف لبيد من قوله:
و هم العشيرة أن يبطيء حاسد أي إن يبطأهم حاسد أي أن ينسبهم إلى البطوء و قوله
«إن شانئك هو الأبتر» لا أنت هذا تقديره أي هو مبتور لا أنت لأن ذكرك مرفوع مهما ذكرت ذكرت معي و هو فصل و الأبتر خبر إن.
[]النزول قيل نزلت السورة في العاص بن وائل السهمي و ذلك أنه رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم و تحدثا و أناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلما دخل العاص قالوا من الذي كنت تتحدث معه قال ذلك الأبتر و كان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو من خديجة و كانوا يسمون من ليس له ابن أبتر فسمته قريش عند موت ابنه أبتر و صنبورا عن ابن عباس.
المعنى خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه التعداد لنعمه عليه فقال
«إنا أعطيناك الكوثر» اختلفوا في تفسير الكوثر فقيل هو نهر في الجنة عن عائشة و ابن عمر قال ابن عباس لما نزلت إنا أعطيناك الكوثر صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر فقرأها على الناس فلما نزل قالوا يا رسول الله ما هذا الذي أعطاك الله قال نهر في الجنة أشد بياضا من اللبن و أشد استقامة من القدح حافتاه قباب الدر و الياقوت ترده طير خضر لها أعناق كأعناق البخت قالوا يا رسول الله ما أنعم تلك الطير قال أ فلا أخبركم بأنعم منها قالوا بلى قال من أكل الطائر و شرب الماء و فاز برضوان الله و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال نهر في الجنة أعطاه الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عوضا من ابنه و قيل هو حوض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة عن عطاء و قال أنس بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاء ثم رفع رأسه مبتسما فقلت ما أضحكك يا رسول الله قال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ سورة الكوثر ثم قال أ تدرون ما الكوثر قلنا الله و رسوله أعلم قال فإنه نهر وعدنيه عليه ربي خيرا كثيرا هو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيختلج القرن منهم فأقول يا رب إنهم من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك أورده مسلم في الصحيح و قيل الكوثر الخير الكثير عن ابن عباس و ابن جبير و مجاهد و قيل هو النبوة و الكتاب عن عكرمة و قيل هو القرآن عن الحسن و قيل هو كثرة الأصحاب و الأشياع عن أبي بكر بن عياش و قيل هو كثرة النسل و الذرية و قد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة (عليها السلام) حتى لا يحصى عددهم و اتصل إلى يوم القيامة مددهم و قيل هو الشفاعة
رووه عن الصادق (عليه السلام) و اللفظ يحتمل للكل فيجب أن يحمل على جميع ما ذكر من الأقوال فقد أعطاه الله سبحانه و تعالى الخير الكثير في الدنيا و وعده الخير الكثير في الآخرة و جميع هذه الأقوال تفصيل للجملة التي هي الخير الكثير في الدارين
«فصل لربك و انحر» أمره سبحانه بالشكر على هذه النعمة العظيمة بأن قال فصل صلاة العيد لأنه عقبها بالنحر أي و انحر هديك و أضحيتك عن عطاء و عكرمة و قتادة و قال أنس بن مالك كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينحر قبل أن يصلي فأمر أن يصلي ثم ينحر و قيل معناه فصل لربك صلاة الغداة المفروضة بجمع و انحر البدن بمنى عن سعيد بن جبير و مجاهد و قال محمد بن كعب إن أناسا كانوا يصلون لغير الله و ينحرون لغير الله فأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون صلاته و نحره للبدن تقربا إليه و خالصا له و قيل معناه فصل لربك الصلاة المكتوبة و استقبل القبلة بنحرك و تقول العرب منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا يعني يستقبله و أنشد:
أبا حكم هل أنت عم مجالد و سيد أهل الأبطح المتناحرأي ينحر بعضه بعضا و هذا قول الفراء و أما ما رووه عن علي (عليه السلام) أن معناه ضع يدك اليمني على اليسرى حذاء النحر في الصلاة فمما لا يصح عنه لأن جميع عترته الطاهرة (عليهم السلام) قد رووه بخلاف ذلك و هو أن معناه ارفع يديك إلى النحر في الصلاة و عن عمر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قوله
«فصل لربك و انحر» هو رفع يديك حذاء وجهك و روى عنه عبد الله بن سنان مثله و عن جميل قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
«فصل لربك و انحر» فقال بيده هكذا يعني استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة و عن حماد بن عثمان قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ما النحر فرفع يده إلى صدره فقال هكذا ثم رفعها فوق ذلك فقال هكذا يعني استقبل بيديه القبلة في استفتاح الصلاة و روي عن مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لما نزلت هذه السورة قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لجبريل (عليه السلام) ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي قال ليست بنحيرة و لكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من الركوع و إذا سجدت فإنه صلاتنا و صلاة الملائكة في السماوات السبع فإن لكل شيء زينة و إن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع الأيدي من الاستكانة قلت و ما الاستكانة قال أ لا تقرأ هذه الآية
«فما استكانوا لربهم و ما يتضرعون» أورده الثعلبي و الواحدي في تفسيرهما «
إن شانئك هو الأبتر» معناه إن مبغضك هو المنقطع عن الخير و هو العاص بن وائل و قيل معناه أنه الأقل الأذل بانقطاعه عن كل خير عن قتادة و قيل معناه أنه لا ولد له على الحقيقة و أن من ينسب إليه ليس بولد له
قال مجاهد الأبتر الذي لا عقب له و هو جواب لقول قريش إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لا عقب له يموت فنستريح منه و يدرس دينه إذ لا يقوم مقامه من يدعو إليه فينقطع أمره و في هذه السورة دلالات على صدق نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) و صحة نبوته (أحدها) أنه أخبر عما في نفوس أعدائه و ما جرى على ألسنتهم و لم يكن بلغه ذلك فكان على ما أخبر (و ثانيها) أنه قال
«أعطيناك الكوثر» فانظر كيف انتشر دينه و علا أمره و كثرت ذريته حتى صار نسبه أكثر من كل نسب و لم يكن شيء من ذلك في تلك الحال (و ثالثها) أن جميع فصحاء العرب و العجم قد عجزوا عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها مع تحديه إياهم بذلك و حرصهم على بطلان أمره منذ بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا و هذا غاية الإعجاز (و رابعها) أنه سبحانه وعده بالنصر على أعدائه و أخبره بسقوط أمرهم و انقطاع دينهم أو عقبهم فكان المخبر على ما أخبر به هذا و في هذه السورة الموجزة من تشاكل المقاطع للفواصل و سهولة مخارج الحروف بحسن التأليف و التقابل لكل من معانيها بما هو أولى به ما لا يخفى على من عرف مجاري كلام العرب.