لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4) القراءةقرأ أبو جعفر ليلاف قريش بغير همز إلافهم مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء و قرأ ابن عامر لئلاف قريش مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء «إيلافهم» مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء.
و قرأ ابن فليح لإيلاف قريش الفهم ساكنة اللام ليس بعدها ياء و قرأ الآخرون
«لإيلاف قريش إيلافهم» مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء.
الحجةقال أبو علي: قال أبو عبيدة ألفته و آلفته لغتان أنشد أبو زيد:
م
ن المولفات الرمل أدماء حرة شعاع الضحى في جيدها يتوضحو أنشد غيره:
ألف الصفون فلا يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيراو قال آخر:
ز
عمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف و ليس لكم إلاف و الألفو
الآلاف مصدر ألف و الإيلاف مصدر آلف.اللغةالإيلاف إيجاب الألف بحسن التدبير و التلطف يقال ألف يألف ألفا و آلفه يؤلفه إيلافا إذا جعله يألف فالإيلاف نقيض الإيحاش و نظيره الإيناس و ألف الشيء لزومه على عادة في سكون النفس إليه.
و الرحلة حال السير على الراحلة و هي الناقة القوية على السير و منه الحديث المروي الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة و الرحل متاع السفر و الارتحال احتمال الرحل للسير في السفر.
الإعرابقال أبو الحسن الأخفش اللام في قوله
«لإيلاف قريش» يتعلق بقوله
«كعصف مأكول» أي فعلنا ذلك بهم لتأتلف قريش رحلتها و قال الزجاج معناه أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش و ما قد ألفوا من رحلة الشتاء و الصيف قال أبو علي اعترض معترض فقال إنما جعلوا كعصف مأكول لكفرهم و لم يجعلوا كذلك لتألف قريش قال و ليس هذا الاعتراض بشيء لأنه يجوز أن يكون المعنى أهلكوا لكفرهم و لما أدى إهلاكهم إلى أن تألف قريش جاز كقوله تعالى
«ليكون لهم عدوا و حزنا» و هم لم يلتقطوه لذلك فلما آل
الأمر إليه حسن أن يجعله علة الالتقاط و قال الخليل و سيبويه فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتكم شكرا لهذه النعمة و اعترافا بها و قيل هو على أ لم تر كيف فعل ربك لإيلاف قريش عن الفراء لأنه سبحانه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما صنع بالحبشة.
المعنى«لإيلاف قريش» أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء و الصيف فكأنه قال نعمة إلى نعمة فتكون اللام مؤدية معنى إلى و هو قول الفراء و قيل معناه فعلنا ذلك لتألف قريش بمكة و يمكنهم المقام بها أو لتؤلف قريشا فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها و هربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة و يألفوا بها و يولد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيبعث إلى الناس بشيرا و نذيرا و قوله
«إيلافهم» ترجمة عن الأول و بدل منهم
«رحلة الشتاء و الصيف» منصوبة بوقوع إيلافهم عليها و تحقيقه أن قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليهم فيه و أن يعرض لهم أحد بالسوء إذا خرجت منها لتجارتها و الحرم واد جديب إنما كانت تعيش قريش فيه بالتجارة و كانت لهم رحلتان في كل سنة رحلة في الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية و رحلة في الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة و لو لا هاتان الرحلتان لم يمكنهم به مقام و لو لا الأمن لم يقدروا على التصرف فلما قصد أصحاب الفيل مكة أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم و مقامهم بمكة و قيل إن كلتا الرحلتين كانت إلى الشام و لكن رحلة الشتاء في البحر و أيلة طلب للدفا و رحلة الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة و لو لا هاتين الرحلتين لم يمكنهم مقام و لو لا الأمن لم يقدروا على التصرف فلما قصد أصحاب الفيل مكة أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم و مقامهم بمكة و قيل إن كلتا الرحلتين كانت إلى الشام و لكن رحلة الشتاء في البحر و أيلة طلب للدفا و رحلة الصيف إلى بصري و أذرعات طلبا للهواء و أما قريش فهم ولد النضر بن كنانة فكل من ولده النضر فهو قرشي و من لم يلده النضر فليس بقرشي و اختلف في تسميتهم بهذا الاسم فقيل سموا قريشا للتجارة و طلب المال و جمعه و كانوا أهل تجارة و لم يكونوا أصحاب ضرع و لا زرع و القرش المكسب يقال هو يقرش لعياله أي يكتسب لهم و ذكر أنه قيل لابن عباس لم سميت قريش قريشا فقال لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه يقال لها القريش لا تمر بشيء من الغث و السمين إلا أكلته قيل أ فتنشد في ذلك شيئا فأنشد قول الجمحي:
و قريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث و السمين و لا تترك فيه لدى الحناجر ريشاو كانت قريش تعيش بتجارتهم و رحلتهم و كان لا يتعرض لهم أحد بسوء و كانوا يقولون قريش سكان حرم الله و ولاة بيته قال الكلبي و كان أول من حمل الميرة من الشام و رحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف و يصدقه قول الشاعر:
تحمل هاشم ما ضاق عنه و أعيا أن يقوم به ابن بيض
أتاهم بالغرائر متأقات من أرض الشام بالبر النفيض
فوسع أهل مكة من هشيم و شاب البر باللحم الغريضو قال سعيد بن جبير مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و معه أبو بكر بملأ و هم ينشدون:
يا ذا الذي طلب السماحة و الندى هلا مررت بآل عبد الدار
لو أن مررت بهم تريد قراهم منعوك من جهد و من إقتارفقال لأبي بكر أ هكذا قال الشاعر فقال لا و الذي بعثك بالحق بل قال:
يا ذا الذي طلب السماحة و الندى هلا مررت بآل عبد مناف
لو أن مررت بهم تريد قراهم منعوك من جهد و من إيجاف
الرائشين و ليس يوجد رائش و القائلين هلم للأضياف
و الخالطين غنيهم بفقيرهم حتى يصير فقيرهم كالكافي
و القائلين بكل وعد صادق و رجال مكة مسنتين عجاف
سفرين سنهما له و لقومه سفر الشتاء و رحلة الأصياف«فليعبدوا رب هذا البيت» هذا أمر من الله سبحانه أي فليوجهوا عبادتهم إلى رب هذه الكعبة و يوحدوه و هو الله سبحانه
«الذي أطعمهم من جوع» بما سبب لهم من الأرزاق في رحلة الشتاء و الصيف و أعطاهم من الأموال
«و آمنهم من خوف» فلا يتعرض لهم أحد في سفرهم إذا قالوا نحن أهل حرم الله و قيل آمنهم من خوف الغارة بالحرم الذي جبلت قلوب الناس على تعظيمه لأنهم كانوا يقولون في الجاهلية نحن قطان حرم الله فلا يتعرض لهم و إن كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب فيقال هو حرمي فيخلي عنه و عن ماله تعظيما للحرم و كان غيرهم إذا خرج أغير عليه و قيل
«أطعمهم من جوع» أي من بعد جوع كما يقال كسوتك من بعد عري يعني ما كانوا فيه من الجوع قال ابن عباس كانوا في ضر و مجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين فلم يكن بنو أب أكثر مالا و لا أعز من قريش.