ا
لحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فهذه بعض الأحكام المتعلقة بالأمطار، سائلاً المولى ـ جل جلاله ـ أن ينفعنا بها قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: من الآية 30] فجميع المخلوقات لا تستغني عن الماء بحال من الأحوال، والأمطار من أهم مصادر المياه العذبة في الأرض، ولنـزول المطر من علو على ما نراه حكم عظيمة، قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: "تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنّما يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها فينشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الأنثى.." أ.هـ. [مفتاح دار السعادة 1/323] وسأتحدث عن هذا الموضوع وفق العناصر التالية:
الاستسقاء عند الجدبعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: «اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا» قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال فلا والله ما رأينا الشمس سبتا" [رواه البخاري (698)، ومسـلم (897)، وعند البخاري (1033)] «ولم ينـزل من منبره حتى رأيت المطر يتحادر من لحيته».
أسباب الجدبمتى حل الجدب بالأرض لحق الناس والدواب وغيرها ضرر عظيم وهو من المصائب التي يبتلي بها الله تعالى عباده {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ} [الحديد: 22]، قال قتادة: "هي السنون". يعني الجدب. [تفسير ابن كثير 4/315]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] أي بالجدب والقحط.
وقال تعالى على لسان إخوة يوسف ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ لما دخلوا عليه يشكون حالهم {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]، والضر هنا : الشدة من الجدب والقحط. [تفسير الطبري 13/49 تفسير ابن كثير 2/499].
وأسباب الجدب كثيرة ولعل من أهمها كثرة الذنوب: قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: من الآية41]، قال القرطبي مفسرًا الآية: " (ظهر) الجدب (في البر) أي في الوادي وقراها وفي البحر أي في مدن البحر مثل (واسأل القرية) أي ظهر قلة الغيث وغلاء السعر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض أي عقاب بعض الذي عملوا ثم حذف، والقول الآخر أنه ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم فهذا هو الفساد على الحقيقة". أ.هـ. [تفسير القرطبي 14/41 وانظر: تفسير ابن كثير 3/436، الجلالين 536].
وعن نجدة بن نفيع قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله عز وجل: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: من الآية39] قال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك عنهم المطر وكان عذابهم. [رواه أبو داود (2506)، وعبد بن حميد (681)، وابن جرير (10/134)، والحاكم (2/114)] وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: من الآية 168]، قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "(وبلونانهم) أي اختبرناهم (بالحسنات) أي بالخصب والعافية (والسيئات) أي الجدب والشدائد (لعلهم يرجعون) ليرجعوا عن كفرهم(. أ.هـ. [تفسير القرطبي (7/310)].
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الظلمة «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» [رواه البخاري (771)، ومسلم (675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
والتوبة لها أثر عظيم في نزول المطرقال تعالى حكاية عن نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12].
وقال تعالى حكاية عن هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52].
قال ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ: "إنّ المعاصي سبب الجدب والطاقة تكون سببا للبركات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]". [المغني (2/148)].
وقال العباس لما استسقى به عمر رضي الله عنهما عام الرمادة: "اللهم إنّه لم ينـزل بلاء إلاّ بذنب ولم يكشف إلاّ بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث. فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس". انظر: [فتح الباري 2/497، ونيل الأوطار (4/32) والاستيعاب (2/814)].
حال النبي صلى الله عليه وسلم إذا تخيلت السماءعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أدري لعله كما قال قوم عاد {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}» [ الأحقاف: من الآية 24]. [رواه البخاري (3034)].
وعنها رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئًا من أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته، ثم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه» فإنّ كشفه الله (حمدا لله) وإن مطرت قال: «اللهم صيبًا نافعًا» [رواه أحمد (6/190)، والبخاري في الأدب (686)، والنسائي في الكبرى (1829)].
وقد عذب الله تعالى أقوامًا بالمطر منهم1-
قوم نوح عليه السلام قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10-14].
2- قوم عاد: وذكرناه سابقًا.
3- قوم لوط عليه السلام قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} فقد أرسل الله تعالى عليهم حجارة من سجيل لتكذيبهم رسولهم. [تفسير القرطبي 13/133، وابن كثير 6/21].
4- قوم سبأ قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سـبأ: من الآية 16]، وهو الماء الغزير، [تفسير ابن كثير (6/495)، الجلالين (565)].
وما واقعة تسونامي عنا ببعيد، فقد أهلك الله تعالى مئات الآلاف في دقائق معدودة نسأ الله تعالى العفو والعافية.