بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمْ
السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ
الحَدِيثُ الآن عنْ : عذاب الميت ببكاء الحي
رَبِّ اغْفِرْ لِيَّ وَلِوَالِدَيَّ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِيْ صَغِيْرَا
اللهمَّ ارْزُقْنِي الْفِرْدَوْسَ الأعلى مِنْ غَيْرِ عِتَابٍ ولا حِسَابٍ ولا عَذَابْ
--- --- --- --- ---
درس :
(من أسباب عذاب القبر : عذاب الميت ببكاء الحي).
أما هذه المسألة مسألة (عذاب الميت ببكاء الحي)
ففيها أقوال .. لا يسعني أن أسردها لكم هنا .. ولا يمكن اختصارها ..
ولكن سوف أكتب لكم عن ما هو القول الراجح في هذه المسألة ..
ويجب عليكم إخواني أخواتي في الله النظر إلى تفصيل ذلك على الرابط التالي للأهمية ..
فالكلام فيه ليس بكثير ولا قليل (بين ذلك)، ولكنه واضح جلي وبسيط مفهوم في الشرح التالي :
((عندما طُعِن عمر بن الخطاب رضيالله عنه دخل عليه صهيب يبكي ، يقول : وا أخاه ، واصاحباه ..
فقال عمر رضي الله عنه :يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الميت يُعَذَّب ببعضبكاء أهله عليه
)) وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال هذاالحديث .. ففي (صحيح البخاري) ((أن ابن عباس ذكر لعائشة ما قالهعمر بعد وفاته ..
فقالت : رحم الله عمر .. والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلمأن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ..
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنالله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، حسبكم القرآن }وَلَاتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فاطر : 18
وقدأولت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أكثر من تأويل ، ورد ذلك عنها في الصحاح والسنن.
وها هنا أمران :
الأول :
هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ؟..
قال القرطبي : (إنكار عائشة ذلك ،وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ، ولم يسمع بعضاً بعيد ،لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون ، وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حملهعلى محمل صحيح.
الثاني :
كيف يعذب ببكاء أهله عليه ، وليس ذلك من فعله ، والله تعالى يقول : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فاطر : 18
للعلماء في ذلك أجوبة أحسنها ما قاله البخاري فيترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته، قال رحمه الله تعالى : (باب قول النبي صلى اللهعليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته) لقول الله تعالى : {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} التحريم: 6
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلكم راع ومسؤول عن رعيته)) فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضيالله عنها : }وَلَاتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فاطر : 18
وممن ذهب هذا المذهب الترمذي رحمه الله ، فإنه روىحديث عمر رضي الله عنه بلفظ : ((الميت يعذب ببكاء أهلهعليه)) ثم قال : قال أبو عيسى (هو الترمذي) : حديث عمر حديث حسن صحيح ، وقد كره قوم من أهل العلمالبكاء على الميت ، قالوا : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، وذهبوا إلى هذا الحديث ..
وقالابن المبارك : أرجو إن كان ينهاهم في حياته .. أن لا يكون عليه من ذلك شيء ..
وهذا الفقه للحديث هو مذهبالقرطبي رضي الله عنه ، فإنه قال : قال بعض العلماء أو أكثرهم : إنما يعذب الميتببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره ، كما قال:
إذ أنا مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد
وكذلك إذا وصى به .
وقد كان النواح ولطم الخدود وشق الجيوب من شأن أهلالجاهلية ، وكانوا يوصون أهاليهم بالبكاء ، والنوح عليهم ، وإشاعة النعي في الأحياء ،وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم ، وموجوداً في أشعارهم كثيراً ، فالميت تلزمه العقوبة فيذلك لما تقدم إليهم في وقت حياته) كذا قال ابن الأثير ..
وينبغي أن ينبه هنا إلى لفظ البخاري ،فقد جاء فيه : ((يعذب ببعض بكاء أهله عليه))
ولا يعذب بكل البكاء ، فالبكاءالذي تدمع فيه العين ، ولا شق ، ولا لطم معه لا يؤاخذ صاحبه به ، وقد جاءت في ذلك نصوصكثيرة .
وقد تعرض العلامة ابن تيمية للمسألة وضعف مذهب البخاري والقرطبي وابنعبدالبرَّ ومن سلك مسلكهم في فقه الأحاديث التي أخبرت أن الميت يعذب ببكاء الحي ،فقد قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر النصوص الواردة في ذلك : (وقد أنكر ذلك طوائف منالسلف والخلف ، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره ، فهو مخالف لقولهتعالى : }وَلَاتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فاطر : 18
ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة.
فمنهممن غلَّط الرواة لها ، كعمر بن الخطاب وغيره ، وهذه طريقة عائشة والشافعي ، وغيرهما ..
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه ، وهو قول طائفة كالمزني ،وغيره.
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كان عادتهم ، فيعذب على ترك النهي عنالمنكر ، وهو اختيار طائفة منهم جدي أبو البركات ،
وكل هذه الأقوال ضعيفة جداً ..
وقد رد قول الذين ردوا هذهالأحاديث بنوع من التأويل ، فقال : (والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمربن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وأبو موسى الأشعري وغيرهم ، لا ترد بمثل هذا ، وعائشة أمالمؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر ، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهادلاعتقادها بطلان معناه ، ولا يكون الأمر كذلك ، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديثالصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئاً ..
ثم بين رحمه الله تعالى أنعائشة وقعت في مثل ما فرت منه ، قال : (وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى اللهعليه وسلم لفظين – وهي الصادقة فيما نقلته – فروت عن النبي صلى الله عليه وسلمقوله : إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه .. (( وهذا موافق لحديث عمر ،فإنه إذا جاز أن يزيده عذاباً ببكاء أهله ، جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله ،ولهذا رد الشافعي في (مختلف الحديث) هذا الحديث نظراً إلى المعنى، وقال الأشبهروايتها الأخرى : ((إنهم يبكون عليه ، وإنه ليعذب فيقبره ))
ورد قول الذين ظنوا أنالحديث يفيد معاقبة الإنسان بذنب غيره ، فقال : (والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ،ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره ، وأن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم مايريد، واعتقد هؤلاء أن الإنسان يعاقب بذنب غيره ، فجوزوا أن يدخل أولاد الكفار الناربذنوب آبائهم (وبعد أنأطال النفس في هذه المسألة : مسألة دخول أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم ، وأن هذاليس بصواب من القول ، وأن الحق أن الله لا يعذب إلا من عصاه ، وأن الذين لم يبتلوايمتحنون في عرصات القيامة ، قال : (وأما تعذيب الميت : فهو لم يقل : إن الميت يعاقبببكاء أهله عليه ، بل قال : (يعذب) ، والعذاب أعمُّ من العقاب ، فإن العذاب هو الألم ،وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب ، فإن النبي صلى الله عليهوسلم قال : (( السفر قطعة من العذاب ، يمْنَعُ أحدكم طعامهوشرابه(( فسمىالسفر عذاباً ، وليس هو عقاباً.
والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها ،مثل الأصوات الهائلة ، والأرواح الخبيثة ، والصور القبيحة ، فهو يتعذب بسماع هذاوشَمِّ هذا ، ورؤية هذا ، ولم يكن ذلك عملاً له عوقب عليه ، فكيف ينكر أن يعذب الميتبالنياحة ، وإن لم تكن النياحة عملاً له ، يعاقب عليه ؟..
والإنسان في قبره يعذببكلام بعض الناس ، ويتألم برؤية بعضهم ، وبسماع كلامهم ..
ولهذا أفتى القاضي أبو يعلىبأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها ، كما جاءت بذلك الآثار ،فتعذبهم بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم ، ثم النياحة سببالعذاب ..
وهذا الفقهالذي صار إليه الشيخ العلامة جاءت بعض الأحاديث دالة عليه ، فعن النعمان بن بشير ، قال :أغمي على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، فجعلت أختهعمرة تبكي : واجبلاه ، واكذا ، واكذا ، تعدد عليه ، فقال حين أفاق : ما قلت شيئاً إلا قيللي ، أنت كذلك ؟!..
فلما مات لم تبك عليه : (( بل إن هذا المعنى ورد صريحاً في الحديثالذي يرويه أبو موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " (( ما من ميت يموت ، فيقوم باكيه ، فيقول : واجبلاه ! واسيداه ! أو نحوذلك ، إلا وكل به ملكان يلهزانه : أهكذا كنت )) رواه الترمذي . وقال : هذا حديثحسن غريب ، وقال الحافظ في (التلخيص) بعد سياقه لهذا الحديث : (ورواه الحاكم وصححه ، وشاهده في الصحيح عنالنعمان بن بشير .. (وينبغيأن ينبه هنا أنه ليس كل ميت يناح عليه يعذب بالنياح عليه ، فقد يندفع حكم السبب بمايعارضه – كما يقول ابن تيمية – كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصواتالهائلة ، والأرواح والصور الخبيثة) .
ثم ذكر أن أحاديث الوعيد يذكر فيها السبب ، وقديتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك ، إما بتوبة مقبولة ، وإما بحسنات ماحية ، وإما بمصائبمكفرة ، وإما بشفاعة شفيع مطاع ، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته .
وبين في خاتمة كلامهأن ما يصيب الميت المؤمن من عذاب في قبره بما نيح عليه يكفر الله به عنسيئاته ..
أما بالنسبة لـ ما الذي يجب أن نعتقد في هذه المسألة : مسألة (عذاب الميت ببكاء الحي )؟
الجواب : المسألة فيها أقوال : أصحها :
1/ أن العذاب هو الألم ، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : (السفر قطعة من عذاب).
2/ أن الميت الذي يعذب هو من أوصى أهله بالبكاء أو علم ذلك منهم ولم ينههم.
والله أعلم ..
اللـــهـــم إنا نعوذ بك من عذاب القبراللـــهـــم ثـبـتـنـا بـتـثـبـيـتـك يا رب العالمينإنـــا لله وإنـــا إلـــيـــه راجـــعـــوناللـــهـــم صـــلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين